المصرية اللبنانية تصدر "تذكرة وحيدة للقاهرة "
في روايته الأخيرة " تذكرة وحيدة للقاهرة " الصادرة مؤخرا عن المصرية اللبنانية كالمعتاد، يفاجئنا الروائي المصري أشرف العشماوي برحلة انسانية شديدة التشويق والإثارة ليس ذلك فحسب إنما يقطع لنا تذكرة سفر للقاهرة القديمة أيام الملك فؤاد مرورا بعهد فاروق وأيامه الأخيرة ثم ينقلنا ببراعة لعصر ثورة يوليو وتحول المجتمع المصري وانقلابه رأسا على عقب حتى نهاية عصر السادات بكل صدماته الانفتاحية.
العشماوي يحكي عن شخص عادي جدا لكنها حكاية غيرعادية بالمرة لنكتشف إننا مثل بطل الرواية مهمشون طالما لا نملك قرارنا، يسرد المؤلف أحداثه الشيقة بلغة جزلة شاعرية راقية تسمو بالقارئ وتحلق به بعيدا في زمن جميل ورغم مشقة الرحلة إلا أن السرد الرائق واللغة الغنية بالمفردات والثراء اللغوي وروح السخرية في كتابات العشماوي جعلت من الرحلة أمرا ممتعا، الرواية تحمل من الخطوط الدرامية الكثير والكثير وتبدأ في حبس أنفاسك أثناء القراءة منذ الجملة الأولى أو عتبة النص حيث يبدأ العشماوي روايته بسباق الخيل الملكي بنادي الجزيرة عام 1933 ليظهر بعده بطلي الرواية تباعا عجيبة سر الختم وبدر شفيق المغازي الأول نوبي مهمش قادم للقاهرة للعمل بنادي الجزيرة والأخر ابن الطبقة الأرستقراطية وسليل عائلة الباشوات والاقطاعيين فيظهر البطلان كحصاني السباق طوال الأحداث لكن من له الغلبة فى النهاية تلك هي المفاجأة.
والتساؤل الذي يطرحه العشماوي، بخبث ولا يجيب عنه وحسنا فعل بأن ترك النهاية مفتوحة للقارئ، ورغم التشويق الشديد إلا أنه لم يكن على حساب جماليات اللغة ولم يكن مفتعلا على الاطلاق إنما جاء بحساب وبميزان دقيق متوازن مستخدما تكنيك رواي عليم مع ضمير متكلم للبطل النوبي صاحب المشاهد الاكبر فى الرواية ليقضى على أي ذرة ملل قد تتسرب أثناء السرد الطويل الممتد لقرابة خمسمائة صفحة تقريبا لكنها ولا شك متعة قراءة حقيقية لأديب يحفر مكانته بعمق وبروية ودون جلبة مصطنعة أو شهرة بائسة أو انبطاح لناقد، روائي حقيقي يحترم قارئه ويقدم له جديدا فى كل رواية مستلهما تلك المرة تراث نوبي عن التماسيح وظفه ببراعة وغرائبية احترافية مع تضفير مشاهد لخيال المآتة فى مكانها تماما لتبدو فصول الرواية أشبه بلوحة فن تشكيلي رائعة التكوين تنتصر لأبناء النوبة المهمشين فى القاهرة والمهجرين من أرض الذهب.
لا زال العشماوي، قادرا على بعث الدهشة واثارة التساؤلات وجذب القراء لكي يروا أبطاله بكل وضوح أمام أعينهم فى كل مشاهد الرواية من سباق الخيول ونادي الجزيرة وخلف أسوار شاطئ المنتزة بالاسكندرية وعلى كورنيشها وفى حواري عابدين وشوراع القاهرة القديمة ووسط البلد وتراس فندق شبرد الشهير وداخل حلقات الذكر بزار الكودية كوثر وبعيدا على الحدود خلف الخزان القديم بأسوان ولحظة إلقاء كتل السد العالي بنهر النيل منتصف الستينات، لحظات فارقة بالنوبة وقت التهجير تذرف معها الدمع ثم تتعالى ضحكاتك رغما عنك مع عجيبة وقريبه عوض بنادي الجزيرة لتجد نفسك بعدها تبكي على مسكة سر الختم زوجة عجيبة الجميلة وتلهث ورائها معه بحثا عن ابنه الصغير الذي لم يره ثم تسافر معه إلى ربوع سويسرا جنة الله فى الارض لتعيش غرائبية مكتوبة باحتراف مع نور الدين الشمسي الذي ألتقاه هناك حتى يقطعلك المؤلف تذكرة وحيدة للعودة للقاهرة لتتلقى مفاجأة نهاية الرواية البديعة.