حلمي النمنم يكتب: مخطوطات جامعة القاهرة
تمتلك جامعة القاهرة ثروة هائلة من المخطوطات، يقترب عددها من العشرة آلاف مخطوط، ومعظمها باللغة العربية، بالإضافة إلى نسبة ليست قليلة باللغتين التركية والفارسية، وهناك عدد محدود من المخطوطات بلغات أخرى مثل السريانية والعبرية والأردية والهندية.
هذه المجموعة من المخطوطات آلت إلى الجامعة،
فى معظمها بالإهداء، حيث قام عدد من أمراء الأسرة العلوية بإهداء مجموعاتهم إلى الجامعة،
فى مرحلة التأسيس، مثل الأمير إبراهيم حلمى والأمير كمال الدين حسين، وهناك مجموعة
أحمد طلعت بك، ومجموعة «زيبولد» وغيرها من المجموعات.
والذى حدث أن الجامعة تأسست، فى بداية القرن
العشرين، كمشروع وطنى ومعرفى تواجه به مصر الاحتلال البريطانى، وتواجه به كذلك الجهل
والتخلف، للخروج من الظلام الدامس، الذى فرضه علينا الاحتلال العثمانى منذ مطلع القرن
السادس عشر، وهكذا انبرى الجميع من أبناء مصر، وتكاتفوا لإقامة هذه المؤسسة العملاقة،
فتبرع البعض بالمال والأملاك، الأميرة فاطمة إسماعيل نموذجاً، وتبرع مئات المصريين
بالمال، قلَّ أو كَثُرَ، وتقدم البعض الآخر بما لديهم من مخطوطات ونوادر المطبوعات
ووثائق وخرائط، بل نياشين كذلك؛ فصار لدى الجامعة هذا الميراث الضخم، وفى القلب منه
تلك المجموعة من المخطوطات، وهى بمعيار العدد، تجعل مجموعة الجامعة من أكبر مجموعات
المخطوطات على مستوى جامعات العالم.
هذه المجموعة من المخطوطات، مع مجموعة دار
الكتب المصرية، ومجموعة جامعة الأزهر، ثم المجموعات الموجودة بعدد من مساجد مصر الأثرية؛
التابعة لوزارة الأوقاف، وكذلك مجموعة مكتبة الإسكندرية، تمثل كلها ثروة مصر من المخطوطات،
وهى ثروة هائلة علمياً ومعرفياً، بكل المقاييس.
والذى حدث أنه منذ سنوات، تزايد الحديث
والتحذير فى الصحافة من سرقة المخطوطات، بعد اكتشاف سرقة مخطوط للإمام الشافعى من دار
الكتب، وساد الهلع لدى الجهات والمؤسسات التى تمتلك مخطوطات ومن بينها جامعة القاهرة،
فكان أن اتُّخذ قرار فى الجامعة، بإيداع تلك المخطوطات بأحد المخازن، وإغلاقه بالشمع
الأحمر، لمنع فتحه واتخاذ إجراءات أمنية صارمة للحيلولة دون سرقته، لكن حدث شىء آخر،
أخطر وأسوأ من السرقة، ذلك أن تخزين المخطوطات، دون التعقيم المتواصل لها، ودون توفير
معايير الحماية الجوية داخل المخزن، من تهوية ودرجات حرارة معينة طوال اليوم، أدى إلى
أن امتد التلف إلى بعض المخطوطات، حيث سعت فيها الحشرات القارضة، التى تصاحب الورق
عادة، وكان ما كان.
والحق أنه لم يكن قراراً صائباً، الخوف
من السرقة يظل قائماً طوال الوقت، لكن ذلك يفرض اتخاذ خطوات وإجراءات تأمينية صارمة،
مثل تركيب كاميرات تصوير داخل مخزن المخطوطات وحوله، ومثل تحديد من المسموح له بدخول
المخزن، وشروط وتوقيت الدخول، وغير ذلك كثير، كما هو متبع فى كل الدنيا.
التخزين السيئ للمخطوطات وللمطبوعات، يمكن
أن يؤدى إلى تلفها التام، بأن تأتى عليها الحشرات وتأكلها الرطوبة وتتجمد أو تتيبس
تماماً، وهذا ما رأيته بالنسبة لبعض المخطوطات فى مخزن جامعة القاهرة، عبر فيلم قصير
مصور يكشف حال ذلك المخزن.
بالمعنى العلمى كان القرار خاطئاً تماماً،
ذلك أن الأصل فى المخطوطات ونوادر المطبوعات هو «الإتاحة»، أى إتاحتها أمام الباحثين
والراغبين فى المعرفة، كى يطلعوا عليها ويقوموا بدراستها، لأن المخطوط أو الكتاب؛ إذا
حُجبَ عن الباحثين، فهذا يعنى- علمياً- مصادرته، ومن ثم إلغاء وجوده، وأن يحدث ذلك
فى مؤسسة معنية فى المقام الأول بالبحث العلمى، فهو أمر يدعو إلى الدهشة.
والذى حدث أن د. جابر نصار، رئيس الجامعة،
أصر على أن يتم فتح المخازن، ولم يقبل أن يتسلم عهدة مغلفة بالشمع الأحمر، ولا يعرف
محتواها بالضبط، وهكذا اكتشف حال المخطوطات والمصير الذى آلت إليه.
الآن هناك مشروع علمى تقوم به الجامعة،
أوكل د. جابر نصار به د. وفاء صادق، يتمثل فى ضرورة فهرسة المخطوطات وتصنيفها، لتحديد
قيمتها العلمية، ومعرفة النادر منها، وما إذا كان بعضها يعد وحيداً ولا نظير له فى
أى مكان آخر، والقيام بترميم تلك المخطوطات، ثم رقمنتها، أسوة بكثير من جامعات العالم
الكبرى، وهو مشروع طويل الأمد، يحتاج وقتاً وجهداً والكثير من الأموال، لأن ترميم المخطوط
عملية معقدة ومكلفة للغاية.
المخطوطات ملك جامعة القاهرة، لكنها تمثل لنا قيمة وطنية وثقافية كبرى، وهى بما تحويه من علوم ومعارف تعد قيمة إنسانية أيضاً، تشغل الباحثين والمتخصصين حول العالم، لذا وجب مساندة الجامعة والتكاتف معها فى هذا المشروع العظيم، والأهم من ذلك توجيه الباحثين الشبان والدارسين إلى ضرورة العكوف على تلك المخطوطات لتحقيق بعضها ودراستها، وبذلك نضمن لها حياة ممتدة، ويتحقق التواصل العلمى والمعرفى.
عن الزميلة المصري اليوم