مثقفون سوريون اتجهوا للابداعات الساخرة وسط غلالات الأوجاع

الفجر الفني

بوابة الفجر


وسط غلالات الأوجاع السورية العسيرة يجد المثقفون في هذا البلد أنفسهم "بين المطرقة والسندان" واضطر الكثير منهم للخروج من الوطن ليجدوا أنفسهم في معاناة جديدة وشكوك تحوم حولهم غير أن بعضهم وجد في "السخرية" متنفسا إبداعيا وسلاحا في مواجهة المآساة. 


وإذ يناهض السواد الأعظم من المثقفين والكتاب والفنانين السوريين التطرف فإن ثمة إشكالية واضحة في مدركات الغرب لحقيقة الانسان السوري وهي إشكالية فرضت نفسها على المثقفين السوريين لتعبر عنها مقولة الكاتبة مالو هلسا "لاتخافوا ولاتشعروا بالذعر منا".


وفي طرح بجريدة الجارديان البريطانية قالت مالو هلسا إنها شعرت بالدهشة حيال توقيف سيدة شابة بسبب قراءتها لكتابها "سوريا تتكلم : الفن والثقافة من الجبهة" وهو كتاب صدر منذ نحو عامين ويناويء الإرهاب والتطرف.


وكانت الشرطة البريطانية قد احتجزت مؤخرا سيدة بريطانية مسلمة من أصل عربي بمطار "دونكاستر" بعد أن لمح أحد أفراد طاقم الطائرة كتابا في يدها هو كتاب مالو هلسا، الذي يضم مجموعة مختارة من المقالات والقصص القصيرة والقصائد والرسوم والصور لأكثر من 50 من الكتاب والشعراء والفنانين سوريين.


والمثير للدهشة والتساؤل أن مجرد قراءة سيدة خلال "رحلتها في شهر عسل" لكتاب عربي يثير الشكوك في الغرب ويدفع السلطات لاحتجازها واستجوابها فيما قالت الكاتبة مالو هلسا، "انه من المثير للسخرية ان يكون الكتاب سببا للاشتباه في انسانة كمتطرفة رغم ان هذا الكتاب يناويء التطرف بشدة ويحمل رسالة مناهضة للعنف وداعية للتفكير الخلاق والتعبير الابداعي".


ورغم ذلك ترى مالو هلسا، انه اذا كانت هناك أي فائدة من الخروج الجماعي للمبدعين السوريين من بلادهم فإن هذه الفائدة تتمثل في تزايد الاهتمام العالمي بالثقافة وتجليات الابداع في سوريا واقامة معارض ثقافية سورية في بعض عواصم الغرب مثل العاصمة البريطانية لندن.


وتطالب هلسا الغرب بأن ينصت لأصوات هؤلاء المبدعين السوريين بعيدا عن الشكوك المفرطة والتي قد تتحول لهواجس بشأن التطرف معتبرة أن الإنصات لتلك الأصوات الابداعية من الأهمية بمكان إذا كان هناك من يفكر حقا في مستقبل سوريا.


وتتابع مالو هلسا طرحها في جريدة الجارديان، لافتة إلى الأوضاع المتردية للمثقفين السوريين شأنهم في ذلك شأن شعبهم في سوريا الجريحة فيما تلاحظ أنه منذ تفجرت أحداث العنف والاحتراب في هذا القطر العربي باتت أغلب الأعمال الفنية من أفلام وتعبيرات وتجليات ثقافية أخرى تنتج بصورة جماعية من أشخاص مجهولين في الغالب وتعرض على شبكة الانترنت.


وأغلب هؤلاء المبدعين - كما تقول مالو هلسا - لايعلم أحد أسماءهم الحقيقية وأماكن وجودهم سواء داخل سوريا أو خارجها موضحة أن هذه الظاهرة ترجع للخوف الذي سكن نفوس الكثير من المبدعين خشية تعرضهم للانتقام والتنكيل جراء اصواتهم النقدية ومواقفهم الناقدة لما يجري في بلادهم فيما تضرب مثلا بالكاتب والناقد ياسين الحاج صالح الذي رفض كشف مكان اقامته خلال اعدادها لهذا الكتاب الذي يحوي بعض كتاباته.


وهذا مايفسر مثلا لجوء بعض هؤلاء المثقفين السوريين للتخفي او طلب حجب وجوههم حال اجراء مقابلات تلفزيونية مع الفضائيات فيما تحولت الشبكة العنكبوتية الالكترونية إلى "ملاذ آمن لابداعات هؤلاء المثقفين".
وتوضح مالو هلسا ان كتاب "سوريا تتكلم" جاء بوحي من هذه الأجواء التي يخيم عليها الخوف وتتميز بالمجهولية والحرص على السرية والابتعاد عن "عيون القتلة" مضيفة أن قلة من الذين وردت أعمالهم الابداعية في كتابها مازالوا يعيشون داخل سوريا.
واللافت أن بعض المبدعين السوريين يتخذون مواقف دالة ونابضة بالحب والارتباط بالوطن مثل الروائي السوري خالد خليفة صاحب "مديح الكراهية" والذي أصر على العودة لبلاده في وقت سابق من هذا العام بعد أن قضى عشرة أشهر بالولايات المتحدة في منحة دراسية من جامعة هارفارد وقال بعد ان اتخذ قرار العودة لسوريا :"لاأستطيع تحمل خسارة الوطن".
كما أن الخوف لم يقهر تماما السخرية التي يتميز بها بعض المبدعين ليواصلوا أعمالهم الساخرة من التطرف والطغيان وخاصة عبر وسائط السينما والمسرح بما في ذلك عروض مسرح العرائس فيما تتوالى إبداعاتهم عن "الحياة في زمن الحرب الأهلية" وقد يسخر بعضهم من مآسيهم وفواجعهم اليومية بعد أن خرجوا للشتات وتحولوا للاجئين.


وتحول بعض هؤلاء المبدعين السوريين الساخرين إلى "ايقونات للفيس بوك" مثل عبود سعيد الذي اصدر مؤخرا كتابا بعنوان "نوفل" فيما وصفه الأكاديمي والشاعر والناقد اللبناني عقل العويط بأنه "ينتمي لفن الكتابة العارية" وكتابته "تقترح شكلا سرديا مفتوحا يشبه نزيف الحياة كنزيف الحياة السورية الراهنة بما تنطوي عليه من مآس وفواجع".


وأضاف العويط الذي يتولى أيضا الاشراف على الملحق الثقافي لجريدة النهار اللبنانية أن صرخة عبود سعيد "مجموعة من ملايين الصرخات غير المعلومة، المتشظية في الأمكنة والأزمنة على السواء" معتبرا أنها "تكاد تكتب نفسها بنفسها من فرط بداهتها الذكية".


إنها "الكتابة المختلطة بالمخاضات والعذابات واليوميات الرهيبة التي لطالما الهمت جيلا جديدا من الكتاب السوريين منذ سنوات اربع وهم في الخضم والأتون" على حد وصف عقل العويط الذي يعترف بأنه يجد نفسه "مأخوذا بسحر هذه الكتابة وبصدقها وعفويتها الماكرة". 


وعبود سعيد الذي بات من أبرز الأصوات الساخرة للجيل الجديد من الكتاب والمبدعين السوريين ينتمي لبلدة "منبج" وهي من أعمال حلب الغنية بموروثها التاريخي والحضاري وينتمي لها أيضا الروائي خالد خليفة غير أنها عانت وتعاني الكثير من الدمار جراء الاحتراب الدامي على أرضها الطيبة حتى بات تاريخها عرضة لمخاطر يومية.


وكانت منظمة التربية والعلوم والثقافة التابعة للأمم المتحدة "اليونسكو" قد أعربت عن قلقها البالغ حيال مصير المعالم التاريخية فى سوريا فيما قالت إيرينا بوكوفا مديرة المنظمة :" تثير قلقن بصورة خاصة الأنباء الواردة عن المعارك العنيفة فى مدينة حلب التى أدرج الجزء القديم منها ضمن قائمة التراث العالمى منذ عام 1986".
وتعد سوريا من الدول الغنية حقا بالآثار حتى أن المقولة الشائعة هناك :"يمكن للمرء أن يحفر في أي مكان ويجد آثارا" فيما توضح أشرطة فيديو ومقاطع على موقع "يوتيوب" الالكترونى عمليات نهب الآثار فى خضم المواجهات الدموية الراهنة .


وكان مارك جريشماير، رئيس قسم الآثار فى المعهد الفرنسي للشرق الأدنى في بيروت قد أوضح أن "الآثار السورية تكتسب أهمية استثنائية كونها شاهدة على التطور البشري وتشهد على نشوء البلدات الأولى فى التاريخ".



وإذ شدد الأزهر الشريف في بيان على أن تدمير التراث الانساني والحضاري أمر محرم شرعا وكذلك التعامل بالتهريب والبيع والشراء في الآثار المنهوبة وهو ماتمارسه الجماعات المتطرفة لتمويل انشطتها الإرهابية فقد أشار إلى أن تدمير الآثار هو تنفيذ لأجندة معادية للأمة تستهدف تفريغ منطقتنا من مكوناتها التراثية والثقافية والتاريخية.


وإذا كانت سوريا اليوم ورقة جديدة من أوراق الحزن العربي وتعيش في "زمن اللايقين" على حد قول الكاتبة مالو هلسا، فإن الموت الحاقد لن يعربد طويلا فى ربوع الشام ودمشق لن تتشح طويلا بالسواد ولن تكون سوى مقبرة للطغيان بقدر ماهى مساحة حرية وقصيدة حب لمدينة هى سيدة القصائد وملهمة الشعراء.