فينيسيا 2016: التحليق في أرض الاحلام بعد زلزال الواقع ..(صور)
مهرجان فينيسيا السينمائي، اعرق مهرجان سينمائي في العالم، يفتتح فعالياته بعرض فيلم موسيقي استعراضي امريكي مفعم بالحياة على الرغم من الزلزال الذي اصاب ايكاليا وخلف نحو 300 قتيل.
مراسلنا صفاء الصالح يكتب من فينسيا عن
فيلم واجواء افتتاح المهرجان.
افتتحت ايطاليا، التي تلملم جراح الزلزال
الذي أصابها الاسبوع الماضي وأودى بحياة نحو 300 شخص، مهرجانها السينمائي الأعرق في
العالم، مهرجان فينيسيا في دورته الـ 73 ، بفيلم موسيقي استعراضي مفعم بالحياة يدور
في أجواء رومانسية وحلمية، لتؤكد ان الحياة يجب ان تستمر ولتبرز أمام قساوة الواقع
جمالية الحلم وعذوبة الفن.
هذه العودة الى السينما بوصفها أرض الاحلام،
قادت المدير الفني للمهرجان البرتو باربيرا الى الذهاب الى مصانع الاحلام (ستوديوهات
هوليود)، ليمنح هذا العام حصة الاسد من افلام المسابقة الرسمية لأفلام انتجتها الولايات
المتحدة او اشتركت في انتاجها، فكانت حصتها ثمانية افلام داخل المسابقة، من بينها فيلم
الافتتاح، ونحو 28 فيلما في عموم تظاهرات المهرجان.
وربما شكلت هذه الدورة لدية محاولة للاختلاف
عن مهرجانات السينما الاخرى التي تهتم في الغالب بالسينمات المختلفة عن التيار الهوليودي
السائد في اوروبا وفي العالم، وعن المهرجان المنافس الابرز كان الذي احتفى بواقعية
السينما ومنح سعفته الذهبية هذا العام لآحد ابرز رموز النهج الواقعي في السينما المخرج
البريطاني كين لوتش.
وفي خطوة غير مسبوقة، اختار باربيرا المخرج
الامريكي الشاب دَميان تشازل وهو في مطلع عقده الثالث (مواليد 1985)، في فيلمه الثالث
"لا لا لاند" أو أرض الأحلام، ليكون فيلم افتتاح هذه الدورة.
الجاز والسينما
سر الالتفات الى تشازل كان نجاحه في ان
يضع نفسه بقوة وبروح شبابية وثابة في سياق تقليد و(جنرة) سينمائية عريقة هي الافلام
الموسيقية الاستعراضية (Musicals) وتحديدا ما يمكن أن نسميها "افلام الجاز"
في اشارة الافلام التي استلهمت موسيقى الجاز مادة لها، كتلك التي قدمت حياة موسيقييها
ومشاهيرها او نقلت الى الشاشة اعمالا مسرحية استعراضية في هذا السياق او جعلت اجواءها
ونواديها خلفية فعل درامي فيها، او تلك التي استخدمت موسيقاها واغانيها في سياق موسيقاها
التصويرية.
ويمثل فن السينما وموسيقى الجاز ابرز نتاجات
الحداثة الأمريكية في الثقافة الشعبية منذ مطلع القرن الماضي، كما انهما تطورا بشكل
متواز في سياق هذا الثقافة، وحتى ان السينما عندما نطقت لأول مرة بعد فترة السينما
الصامتة كان في فيلم حمل عنوان "مغني الجاز" للمخرج الان كروسلاند عام
1927، وتطول قائمة الافلام التي قدمت موسيقى الجاز في السينما ولا تتسع هذه المقالة
لذكرها.
لفت تشازل الانظار اليه في فيلمه الثاني
"ويبلاش" الذي حظي بنجاح كبير واحتفاء نقدي ورشح لنيل خمس جوائز أوسكار من
بينها افضل فيلم وأفضل سيناريو معد، وفاز بثلاث منها، هي افضل مزج صوت وافضل مونتاج
وافضل ممثل مساعد التي ذهبت عن استحقاق للممثل جي كي سيمنز.
وكان قدم في فيلمه الاول"غاي اند مادلين
أون أ بارك بينتش" في عام 2009 ارهاصات هذا النهج عبر قصة حب تجري في اجواء حفلات
موسيقى جاز بعضها كان يقدم بشكل مباشر، ما جعل الفيلم اقرب الى استخدام اسلوب الفيلم
الوثائقي او سينما الحقيقة، كما طورها ديزيغا فيرتوف وجان روش لاحقا، لاسيما انه صور
بالابيض والاسود وبكاميرا 16 ملم واستخدم لاداء ادوار الفيلم ممثلين غير محترفين.
نجح تشازل في ان يختط لنفسه نهجا خاصا بالمزاوجة
ما بين فنين يعشقهما الموسيقى، وتحديدا موسيقى الجاز، والسينما، وبني هذا النجاح على
تجربة شخصية حميمة مع الفنين، نجح فيها في أن يستثمر عدم نجاحه في احدهما كمادة درامية
للفن الاخر.
كان نشازل يحلم ويتدرب لأن يكون موسيقي
جاز وتحديدا عازف درامز ابان دراسته في الثانوية، لكنه ادراك لاحقا انه لن يصبح موسيقيا
موهوبا فاتجه الى السينما، وجعل من فشله أو قل أحلامه الموسيقية تلك مادة افلامه وسيناريوهاته
المفضلة.
وقادت هذه الدراما الشخصية الى خلطة (سحرية)
لكل افلامه، وهي الدراما في الموسيقى نفسها، اي ان الموسيقى تكون عنصر تعبير عن انفعالات
الشخصيات واحلامها وليس عنصرا تكميليا، كما هو السائد، في الموسيقى التصويرية في الافلام،
وقد استخدمه بتنويعات مختلفة في افلامه الثلاثة.
ولا تكتمل هذه الخلطة دون جهد جاستن هواتز
الذي وضع الموسيقى التصويرية لأفلام تشازل الثلاثة، وهو شريك في الحلم منذ ايام الدراسة
حيث عاشا في سكن مشترك وظلا يعملان في انسجام وفهم مشترك. يميل هواتز الى موسيقى الجاز
الحر (Free Jazz) اي تلك الحركة التي نشأت في الخمسينيات والستينيات
وحاولت ان توسع او تغير تقاليد الجاز بل وتحدث قطيعة معها احيانا باتجاه اشكال موسيقية
ابداعية اكثر تحررا.
وفي سياق تطور الموسيقى اليوم باتت هذه
النزعة من الكلاسيكيات التي يسعى تشازل وهواتز الى احيائها واستثمار افاقها في سياق
الموسيقى المعاصرة، والنتاج السينمائي الموسيقي الاستعراضي.
أرض الأحلام
في "لا لا لاند" يخرج تشازل الى
أفق جديد في سياق موضوعته المفضلة الجاز والسينما، فاذا كان قدمها في سياق واقعي اقرب
الى سينما الحقيقة في فيلمه الاول، وفي سياق يقترب من الدراما السايكولوجية في فيلمه
الثاني، يعود هذه المرة الى قالب الفيلم الموسيقى الاستعراضي الخالص، مع مزواجة بين
الحلم والواقع في سياق حكاية رومانسية تستعيد الكثير من أجواء هذه الافلام في عصرها
الذهبي في الأربعينيات والخمسينيات، ولا تنسي ان توجه تحية لتطور هذه (الجنرة) اوروبيا
ايضا في الستينيات والسبعينيات، في لمسات ينثرها هنا أو هناك في فيلمه كتلك الاحالات
الى افلام المخرج الفرنسي جاك ديمي الموسيقية.
في الدفاع عن ذلك قال تشازل في المؤتمر
الصحفي الذي اعقب العرض "نحتاج الان الى الأمل والرومانسية على الشاشة أكثر من
اي وقت مضى، واعتقد أن ثمة شيئا ما في الاعمال الاستعراضية، السينما وحدها قادرة على
تجسيده".
ويمهد تشازل لفيلمه بمشهد نفذ ببراعة واتقان،
وشكل مفتتحا يكفي لوحدة لآن يضعه في مصاف مخرجي نمط الافلام الاستعراضية المميزين.
هذه المشهد أراه خليطا من مفتتح فيلم فليني الشهير "ثمانية ونصف" وفيلم الان
باركر "شهرة" (Fame) وفيلم ارسون ويلز "لمسة الشيطان" (في
طريقة تنفيذه)، اذ يقدم في مشهد في مقطع صُور بلقطة مستمرة مجاميع راقصة ترقص خلال
ازدحام مروري على الخط السريع في لوس انجلس.
يقدم هواتز هنا سمعيا ما قدمه فليني بصريا
في مفتتح فيلمه، (وهناك فكرة الطيران سنراها في مشهد لاحق في الفيلم)، فتمر الكاميرا
مسرعة وسط السيارات المتوقفة ملتقطة اصوات الكلام والاغاني والموسيقى وتشويش المحطات
الاذاعية، وهي تفاصيل ابعد من ان يضمها هارموني ثم ينطلق منها في لحن هادر واغنية
" يوم مشمس آخر" وتنطلق المجاميع لترقص بين صفوف السيارات وفوقها في اتقان
وتنظيم عالين امام الكاميرا التي تواصل حركتها دون قطع.
وفي سياق هذا المشهد التمهيدي يقدم تشازل
ابطاله الذين يجمع مصائرهم لاحقا بعد سلسلة من المصادفات فإيمي (الممثلة ايما ستون
في احد افضل ادوارها) تنشغل بقراءة ورقة اثناء الازدحام المروري ذاته، فتسبب في تأخر
حركة السير بعد انتهاء الازدحام ويجتازها سيب (سباستيان) بغضب، يؤدي دوره الممثل ريان
كوزلينغ (رشح للاوسكار عن فيلم "هالف نيلسون") .
لنعرف لاحقا أن ميا تسعى لآن تكون ممثلة،
واثناء متابعتها لحلمها تعمل نادلة في مقهى قرب استوديوهات وارنر بروس، وتتعرف الى
سيب وهو عازف بيانو عاشق لموسيقى الجاز محبط من عدم فهم الاخرين لنزوعه الموسيقى، ومضطر
لعزف مقطوعات شعبية لا تتناسب مع طموحه الموسيقي كي يسد رمقه. ويجمعهما الفشل والايمان
بطموح الاخر في قصة حب، تدفعهما للسعي اكثر لتحقيق طموحاتهما.
يقسم تشازل قصة حبه الرومانسية تلك على
فصول السنة فتبدأ في الشتاء وتتوهج في الربيع والصيف وتذبل في الخريف، ليفترق الحبيبان
وسط خلافاتهما بسبب العمل والطموح.
وحبكة القصة هنا ليست مهمة ويمكن ان تجدها
في الكثير من الافلام الرومانسية القديمة، لكنها تصبح مدخلا لتقديم شكل موسيقي استعراضي
ولتلك المزاوجة بين الدراما والموسيقى وبين الحلم والواقع.
لقد استعار مدير التصوير السويدي لسنوس
سانغرين ("من افلامه احتيال أمريكي" مرح" "رحلة مائة قدم"
) الكثير من العناصر البصرية لافلام الاربعينيات والخمسينيات ونجح ان يمنحها لمسة معاصرة،
كما اشرنا في مشهد التمهيد او في مشهد الرقصة على خلفية اضواء مدينة لوس انجليس، او
تلك الرقصة والتحليق وسط النجوم في مبنى القبة الفلكية الذي يذهب اليه البطلان بعد
مشاهدة فيلم ايليا كازان "ثائر بلا قضية" للنجم الشهير جيمس دين، حيث يحترق
الفيلم وتضاء الشاشة لحظة يهم سيب بتقبيل حبيبته، فيلجأن الى الحلم في مبنى القبة الفلكية
بديلا عن الواقع بل وحتى السينما نفسها.
ويرى تشازل إن "السينما بوصفها ارض
الاحلام، وبوصفها لغة احلامنا أو طريقة التعبير عن عالم يمكن ان ندخل فيه في اغنية
يمكن ان تتجاوز عواطفها قوانين الواقع"بحسب تعبيره.
لا شك أن تشازل قدم في "لا لا لاند"
فيلما موسيقيا استعراضيا ناجحا بكل المقاييس، فيلما مبهجا ومفعما بالحيوية، لكننا لا
نستطيع ان نضعه في مصاف التحف البارزة في هذا السياق، التي لمح اليها واستعار الكثير
من مفرداتها، وبعد النجاح الذي حققه في "ويبلاش" نراه يدور في الحلقة نفسها
في محاولة اعادة استثمار عناصر نجاحه (موسيقى الجاز والدراما الموسيقية) فنراه مثلا
يعطي دورا للممثل جي كي سيمنز، بدا هامشيا وباهتا يعيد التذكير بدوره كمعلم الموسيقى
الصارم في الفيلم السابق، فهو بدور صاحب ناد صارم ايضا في الفيلم الجديد ولكن بدون
هالة الأداء الناجح في الفيلم الأول.
ونراه يسرف في الحوارات في الدفاع عن نهجه
في استلهام موسيقى الجاز على لسان بطله العاشق لهذه الموسيقى، وفي احد المشاهد يعمد
الى تقديم اداء لفرقة جاز بالتوازي مع شرح بطله لهذه الموسيقى، حيث تتصاعد الموسيقى
مع تصاعد حدة انفعاله، ويستعرض العازفين في اداء منفرد مع تلوينات شرحه.
يرى تشازل "السينما بوصفها ارض الاحلام،
وبوصفها لغة احلامنا أو طريقة التعبير عن عالم يمكن ان ندخل فيه في اغنية يمكن ان تتجاوز
عواطفها قوانين الواقع".
واذا كانت هذه الثنائية : الحلم والواقع
قد جددت الحياة لخلطة تشازل في المزاوجة بين موسيقى الجاز والسينما، علينا اذن انتظار
فيلمه الجديد لنرى هل انه استهلك كل عناصر وصفته تلك أم ما زال قادرا على رفدها بعناصر
تعبيرية جديدة، في انتظار ذلك، نقول كانت ارض احلامه كانت مشرقة ومبهجة وممتعة بالتأكيد.