شيماء أحمد تكتب: يعقوب الأطرش.. من مهد المسيح إلى مايسترو الأرض المقدسة
من مهد المسيح وفي بيت الرعاة، نشأ الفتى الصغير في قلب العذراء، فتهادى قلبه للموسيقى كما ترنيمة للمسيح، أضاء نبضه بشمعة للغفران فمضت أوتاره تسبح في السماء.
في بيت ساحور، الساهرة على حراسة
الابناء، الأرض المسحورة ببشرى مولد المسيح المُخلص، فإستكان الكون لقدومه وسبحوا
في الأعالي وعم الأرض السلام، نشأ الفتى الصغير ليجد نفسه أمام عدو غاشم، سلب منه
الأرض والحياة، أمام عدو لا تعرف الرحمة إلى قلبه طريق، في قلب مدينة يسوع إرتكب
أفظع الأشياء، لا تعرف الأرض دماء المسلم من المسيحي فاللون القرمزي لايفرق بين
الابناء.
في المدينة المُقدسة، يجد يعقوب
الأطرش، الأرض غارقة في الدماء، والصمت من حوله يُشعل النيران في عقله، ولا يجد
لتساؤلاته إجابات والحصار يزاداد في كل مكان، ويختنق قلب الصغير ويتساءل أهذه لعنة
من الرب؟ أم اختبار للابناء؟
وعلى أوتار العود يعزف قلبه لحنه
الأول، فتسكن روحه سكينة إلهية، ترد على كل تساؤلاته، عندما يستمع إلى أنغام والده
عازف العود المتميز، فيجد نفسه سابحًا في عالم آخر، لحظة خروج نفسه من واقعها
الأليم إلى عالم الموسيقى الملئ بالسحر والحياة.
من طفل صغير إلى شاب يحقق الأحلام،
يدرس ويتعلم الموسيقى ليكون فخرًا لوطنه، ويعتري قلبه خوفُ مصحوب بأمل، هل سيتقبل
الناس هذا وسط الاحتلال؟
وتناسى أنه أمام شعب جبار يغني ويضحك
وسط الحصار، يقابل رصاصة العدو بإبتسامة هادئة وحجارة في اليد تُرهب قلوب الجبناء.
وفي معهد الموسيقى يتوسم أستاذه فيه
القيادة والذكاء، ففي موسيقاه شجن غريب كأنه يقاتل الأعداء، لقد اختار أن يحارب
بسلاحه البتار، موسيقى تُلهب حماس المقاتلين فتزلزل قلوب الأعداء.
ومثلما دقت الموسيقى على أوتار قلبه،
قرر أن يكون "أوتار" هي عنوانه وملاذه، هي جيشه الخاص الذي يجوب به
البلاد لِيُريَ العالم كله أن الفلسطيني عز الرجال، ومن قلب المعاناة والحرمان خرج
الإبداع.
يجوب العالم بأكمله لينشر الموسيقى
والتراث، تعامل مع عشرات المطربين من مختلف الأجناس والأطياف ، الكبار منهم
والصغار، يمشي نحو حُلمه بخطى ثابتة مع دعوات الألاف من ابناء شعبه الذي مثّلهم
فكان خير مثال.
يعقوب الأطرش الذي اصبحت الحناجر
الذهبية تتغنى بألحانه، فتزلزل الأرض من قوتها حينًا، وتلمس القلوب من رقتها حينًا
آخر، وعندما يريد أن يداعب الجماهير يخلق جوًا من المرح والبهجة فيجعل قلوبهم ترقص
ناسين أوجاعهم وآلامهم.
يعتلي المسرح فيخطف الأضواء من كل
الحاضرين، ويسرق القلوب بابتسامته الساحرة وأناقته المعهودة، كملك يعتلي عرشه،
وبإشارة من عصاه تبدأ الحفل فيسكت الجميع ليستمعوا إلى جرعة موسيقية مركزة تجمع
مابين فن العزف والمعرفة.
لم يصبح يعقوب مجرد موسيقي يهوى العزف
والألحان، بل اصبح مثلًا أعلى يقتدي به الشباب، ولم ينسى بلاده التي خرج من رحمها
وتذوق المعاناة، جعل من ألحانه سكينًا حادًا على رقبة كل الأعداء، وملاذًا لابناء
وطنه من قسوة الحياة، الحياة التي تخلى عنهم فيها الجميع وتنفروا، فاصبحوا داخل
حارة ضيقة تختنق فيها أنفاسهم وتموت آمالهم.
اصبحت موسيقاه ملاذًا لهم من برد الشتاء
القارس تساعدهم على استحضار الدفء حتى في أصعب الليالي برودًا وعصفًا، وتهب لهم
الحياة والأنفاس في نهار تُغيم عليه الشمس بحرارتها الموجعة، فيعزف على أوتار
العشق ليجعلهم يحلقون معه لعالم ملئ بالسحر والخيال.
وتبقى بيت ساحور في قلبه كترنيمة السلام للعذارء مريم، لا تهدأ نفسه إلا بين أحضانها ولا يشعر قلبه بالسكينة إلا وسط حقولها الخضراء.