طارق الشناوي يكتب: جوائز برلين لمن يستحقها
قال رئيس لجنة تحكيم مهرجان برلين، المخرج بولين بول فيرهوفن، إن
اللجنة بالإجماع وقعت فى حب هذا الفيلم، وهكذا استحق "على الجسد والروح"
للمخرجة للديكو اينيدى الدب الذهبى، أهم جوائز المهرجان، وهى الجائزة الذهبية
الوحيدة. تسابق هذا الفيلم ضمن 18 فيلما روائيا طويلا، ضمتها تلك المسابقة،
والفيلم نفسه حصل على الجائزة «المسكونية» وجائزة النقاد «الفيبرسكى»، وبالمناسبة
فإن المسكونية اتجاه دينى يدعو لتوحيد الطوائف المسيحية فى كنيسة واحدة، وهى
بالطبع جائزة تضع المعيار الدينى الأخلاقى هدفا لها، وفى العديد من المهرجانات
الكبرى نرى جوائز مماثلة تعلن على الهامش، إلا أن حصول الفيلم على الجائزة من ثلاث
زوايا رؤية مختلفة لجنة التحكيم الرئيسية ولجنة الفيبرسكى «النقاد الدوليين» ولجنة
«المسكونية»، يؤكد جدارته بلقب الأفضل، إلا أن المهرجان فى هذه الدورة لم يكن فى
أحسن حالاته، وتلك حكاية أخرى.
وجاءت جائزة لجنة التحكيم الكبرى، الدب الفضى، للفيلم الفرنسى الذى
تجرى أحداثه فى أنجولا «فيليستيه» وهو اسم البطلة للمخرج آلان جومى، وجائزة الدب
الفضى لأفضل مخرج للفنلندى اكى كوراسماكى «الجانب الآخر من الأمل»، مين هى كيم
«على الشاطئ وحيدة ليلا» وأفضل ممثل الأسترالى جورج فريدريك عن دوره فى فيلم
«ليالى مضيئة»، وجائزة أفضل سيناريو للمخرج سباستيان عن «امرأة رائعة» توقعت فعلا
أن تفوز تلك الأفلام، ولنا كعالم عربى جزء من تورتة الجوائز، حيث فاز الفيلم
الفلسطينى «اصطياد الأشباح» بالجائزة الفضية للفيلم الوثائقى الطويل للمخرج رائد
أنضولى، العام الماضى كانت لنا جائزتان للفيلم التونسى «بنحبك هادى» جائزة أفضل
مخرج وجائزة أفضل ممثل لمجد مستورة.
دعونا الآن نُطل على الجوائز والتى تصدّرها «على الجسد والروح»،
الفائز بالدب الذهبى، هو فعلا يُقدم التناقض بين الجسد والروح، للمخرجة للديكو
اينيدى، لمحة الفيلم الخاصة تتجلى فى تلك المساحة بين السلخانة، حيث تجرى الأحداث
وقصة الحب التى تنمو بين اثنين أيضا، ملعبها الرئيسى السلخانة، وكأن القدر يجمعهما
بعد سنين، صاحب العمل المسؤول عن المكان وتلك العاملة التى تلتحق بالسلخانة، بناء
السيناريو مخادع، حيث يقدم لنا رؤية دموية، من خلال كل التفاصيل المتعلقة بالحدث
الدموى بطبعه، ولكن تلك الأجواء التى تملأ السطح ومقدمة الكادر، تدفعك لكى تتأمل
ما بعدها، الحلم الذى نراه يتكرر منذ اللقطات الأولى لغزالة ووعل تجمعهما نظرات
تشى برغبة لا تتحقق، بياض الثلوج يصنع حالة ملائكية لتلك العلاقة، وكأنها تمهيد
منطقى لما سوف نراه بعد قليل، وهو يأخذنا بقدر من الاحترافية إلى أجواء الفيلم،
السلخانة أيضا من الممكن أن تجد فيها إعلان النهاية لحيوان برىء، فهو ينتقل من
الروح التى تغلف المشهد إلى الجسد الذى من الجائز أن تراه بعد قليل داخل تلك
السلخانة، حالة فيلم فى بناء العلاقة بين الجسد والروح التى تنمو تدريجيا، كل
التفاصيل نراها وكأننا بصدد رؤية تسجيلية مباشرة أرادت المخرجة أن تُقدمها لنا،
تقطيع الأرجل وتقسيم اللحوم وإعدادها آليا، ثم يبدأ العمال فى تنظيف ملابسهم
وأيديهم من الدماء، وكأن الجميع يعيشون فى ازدواجية الجسد والروح، كل من البطل
والبطلة لم يعيشا الحب، ليس لأنهما بلا مشاعر، ولكن لأن هناك حالة من الخوف
والتردد، حتى إن البطل لم يتعود النوم بجوار أحد، وعندما تحين اللحظة تتواصل الأرواح،
ولكن بخطوات تبدو للوهلة الأولى متراجعة أو فى الحد الأدنى غير واثقة من القرار،
الرجل فى لحظة الذروة لا يملك القرار، والحبيبة لا تجد أمامها سوى الانتحار فى
ذروة يأس، وتغرق داخل البانيو فى دمائها، ولا يعيدها للحياة سوى إحساسها بان باب
الأمل فُتح مرة أخرى، تخرج مسرعة مع رنين الهاتف، وتسمع صوته فتضمد الجراح وتذهب
للمستشفى لتتلقى العلاج، فهى تعيش فقط لتلك اللحظة، ولكن السيناريو قبل أن يصل إلى
النقطة التى تنقلب فيها الدراما من الموت للحياة يقدم لنا الحلم ويفسره، هناك
الطبيبة النفسية التى تأتى للمذبح بعد جريمة اعتداء لم تكتشف بعد، ولكن كان هناك
تخوف من أن تلك الجريمة وراءها ربما خلل فى السلوك من العاملين بسبب تلك الأجواء،
ولهذا تسأل مثل أى طبيب نفسى عن الأحلام التى يعيشها العاملون، وتكتشف أن الاثنين
يحلمان معا نفس الحلم ولا تُصدق فى البداية، وهذا الموقف ذكرنى على الفور وكأنه
يستعيد أغنية لعبدالحليم حافظ «بلاش العتاب»، التى كتبها حسين السيد فى هذا المقطع
«الحلم كنا بنحلمه ونكمله من بعضنا»، إنه الجسد والروح يلتقيان معا.
أما جائزة لجنة التحكيم التى جاءت للفيلم الأنجولى «فيليسيته» على
اسم البطلة التى تعمل وتتكسب، فهى تعمل مغنية فى بار، حيث تجرى الأحداث فى
كينشاسا، يصاب ابنها الوحيد فى حادث وتتحمل كل المشاق، ونرى المستشفى الحكومى
وكأنه بالضبط ما يجرى من فساد عندنا، حيث لا شيء يقدم للمريض بلا رشوة، وتتعرض
لعملية سرقة من امرأة تنتحل صفة زوجة مريض. الفيلم يجرى داخل أجواء مليئة بالقسوة
ولكن الحب هو الذى يسمح بأن تواصل المرأة الحياة، الفيلم قاس بقدر ما يمنح بصيصا
من الأمل.
فاز الفلسطينى رائد أناضولى بجائزة الدب الفضى لأفضل فيلم وثائقى
طويل «صيد الأشباح»، والحقيقة أن مهرجان برلين الذى صار يحتفى بالسينما العربية بل
تحول وكأنه منصة دائمة ومبهرة للفيلم العربى، و«صيد الأشباح» فيلم له موقف ضد
الصلف والعنف الذى تمارسه إسرائيل ضد العرب وما يجرى فى المعتقلات فى مركز
«موسكوبيا»، حيث يبدأ الفيلم بإعلان المخرج عن حاجته للممثلين فى فيلمه، واشترط أن
يكونوا قد مروا من قبل بتجربة السجن حتى يحصل منهم على أفضل ما لديهم، من خلال
استعادة أحداث عاشوها بالفعل من قبل ذلك فى السجن الإسرائيلى، وتبدأ الاختبارات
العملية، ويبدأون فى سرد وقائعهم، ولماذا وكيف دخلوا المعتقل، وهو على الجانب
الآخر يقتنص منهم تلك اللمحات التى يقدمها فى فيلمه التسجيلى، وبالطبع تلمح بين
ثناياه رؤية درامية، حيث كان المخرج ينتقل برشاقة إبداعية بين الوثيقة المباشرة
للحدث وبين أدائه واستعادته دراميًّا، أو إضافة لمحات أخرى، وفى تلك الأجواء كنا
نرى الوجه القبيح لإسرائيل، المخرج عاش فى فترة زمنية قبل نحو 20 عاما تجربة
مماثلة فى السجن، فبات عليه أيضا أن يقدم حكايته، يذكر الفيلم فى تتر النهاية أن 7
آلاف معتقل فلسطينى فى السجون الإسرائيلية الآن، و750 ألفا تم اعتقالهم منذ 67
وتمت محاكمة أغلبهم، المعتقل السابق كممثل يعتبر نوعا من العلاج النفسى، مركز
المسكوبيا، كيف يتم توجيه الشتائم والضرب، إعادة المحاكاة للواقع الذى عاشوه هو
واحد من أساليب العلاج النفسى المعروف.
وكأن المهرجان لم يكتف فقط بمنح تلك المساحة للتواجد العربى فى أكثر
من فيلم وضيف وتكريم، ولكنه أيضا يوجه رسالة تتجاوز جدران السجن «مسكوبيا» متعاطفا
مع الفلسطينيين، فهو مهرجان طوال تاريخه يبدو دائما مسكونا بالرأى والموقف السياسى
الذى يقف دائما إلى جانب المقهورين.
هذا
المقال نقلًا عن المصري اليوم