فايزة هنداوي تكتب: متعة اكتشاف الذات والاستمتاع بالحياة في الفيلم الأسباني "That Was Life"
"العمر مجرد رقم" هذه العبارة البسيطة ولتي يرددها الكثيرون دون إيمان حقيقي بها، هي جوهر الفيلم الأسباني "That Was Life" أو "هكذا كانت الحياة"، المشارك في الدورة السابعة والثلاثين لمهرجان الإسكندرية السينمائي لدول البحر المتوسط.
الفيلم هو العمل الروائي الطويل الأول للمخرج
الأسباني، ديفيد مارتين دي لوس سانتوس ، وهو
الذي كتب القصة والسيناريو أيضا ، بعد عدة أفلام وثائقية مهمة، شارك بها في عدة مهرجانات
دولية، وكان واضحا من أعماله الوثائقية انه يهتم بالمشاعر الإنسانية، وهو ما أكد عليه
في فيلم "هكذا تكون الحياة"، الذي يؤكد علي ضرورة البحث داخل ذواتنا باستمرار
حتى نتمكن من الاستمتاع بالحياة، وعدم الاستسلام للأفكار السلبية عن العمر، فطالما
أن الحياة مستمرة، فلابد من الاستمتاع بها، وعدم فقدان الشغف.
يدور الفيلم حول السيدة الإسبانية ماريا، التي هاجرت إلي بلجيكا
مع عائلتها ، و تبلغ من العمر 76 عاما، تتعرض
لازمة صحية نقل علي اثرها للمستشفي، ترافقها في الغرفة "فيرونيكا"، الفتاة
العشرينية، وهي فتاة أسبانية أيضا هاجرت مؤخرا الي بلجيكا للبحث عن فرصة عمل، وهي فتاة جريئة، حسية، مقبلة علي الحياة، ليظهر الخلاف حادا
بين الشخصيتين، ليس بسبب فرق السن واختلاف الأجيال فقط، ولكنه أيضا بسبب طبيعة كل
شخصية.
فيرونيكا فتاة متحررة من كل التقاليد والقيود،
مقبلة بنهم علي الملذات، وتحاول الاستمتاع بكل لحظة في حياتها.
في حين أن ماريا تقليدية ساكنة، تعيش حياة روتينية بدون معني، وترى
أن تقدمها في السن يعني أنها فقدت الحق في الاستمتاع بالحياة، وعليها أن تعيش أيامها
الباقية في انتظار الرحيل.
لكن نظرتها للحياة ولنفسها تتغير بسبب لقائها
القدري بفيرونيكا.
نري بدايات تغير ماريا مع المحادثات القليلة بينهما
ولكن هذه التغيرات تتأكد من خلال رحلة اضطرت لها ماريا، تؤثر كثيرا في شخصيتها وكأنها
كانت رحلة بحث عن الذات لتكتشف أنها ما زالت قادرة علي الشعور والرغبة والاستمتاع بالحياة
السيناريو تصاعد ببطء وجاء إيقاع الفيلم
هادئا، متناسبا مع الحالة الشعورية لبطلة الفيلم،
فلا نجد صدمات أو تغيرات مفاجأة ولكنه تحول تدريجي نلمسه بقليل من الحوار وكثير
من المشاعر، تنشأ العلاقة باردة في البداية، بن ماريا وفيرونيكا حيث ينتاب ماريا ضيق
شديد من تصرفات قيرونيكا، لكن هذه العلاقة تتصاعد و تتوطد مع الوقت، ربما لأن ماريا
لمست فيها جوانب انسانية، واقبال علي الحياة تفتقده هي، وربما لأنها لمست فيها الطموح
والقدرة علي الحلم، أو لأنها تتمتع بالصدق والوضوح، وربما كل هذه الأشياء مجتمعة، تشعر
ماريا بالحب والتعاطف تجاه فيرونيكا حتي انها تترك لها رقم هاتفها عند مغادرتها المستشفي،
لتفاجأ بعد ذلك باتصال من إدارة المستشفى، لإخبارها بأن فيرونيكا توفيت علي اثر مرضها
وانهم قاموا باحراق جثتها، و سيضطرون لرميها في المهملات إذا لم يتسلمها أحد.
تتردد في البداية لكنها تقرر أن تأخذ رمادها لتسليمه
لأحد من أهل فيرونيكا التي كانت قد حكت لها عنهم .
وتبدأ رحلتها إلي جنوب أسبانيا، لنكتشف
مع الوقت أن الرحلة ليست فقط رحلة خارجية تقوم فيها ماريا بواجب إنساني تجاه صديقتها،
لكنها أيضا تغوص في رحلة داخلية داخل ذاتها، لتعيد اكتشاف علاقتها بنفسها وعلاقتها
بالحياة ، لتكتشف أنها مازالت قادرة علي الحياة وما زال لديها الشغف والرغبة، فالمشاعر التي كانت تظن أنها ماتت مع التقدم في السن ما زالت
حية داخلها..
وكان المخرج ومدير التصوير حريصين
علي استخدام اللقطات القريبة، التي ركزت علي وجه ماريا البارد الخالي من الحياة في البداية، وتأثر هذه
الملامح والتعبير عن مشاعرها المتباينة أثناء
الرحلة الخارجية والداخلية، وتمكنا من ذلك بنجاح مع وجود ممثلة قديرة مثل بيترا مارتينيز Petra Martínez صاحبة التاريخ الكبير، التي كانت بدايتها
مسرحية من خلال عرض "اثنتي عشر ليلة"
لوليام شكسبير ، مما كان له أثر كبير في صقل موهبتها، ثم كانت لها مسيرة طويلة في السينما الاسبانية وسبق وفازت بعدة جوائز، قدمت
أفلام مهمة كان آخرها فيلم "شظايا انفرادية" مع المخرج خايمي روزاليس، وقد وصلت لأقصى مراحل النضج
الفني، حيث استطاعت من خلال تعبيراتها وبأقل قدر من الكلمات أن تعبر عن تطورات مشاعر امراة سبعينية تشعر بالخواء والجفاف، وانتهاء
الحياة، وتمر بمراحل عدة إلي أن تصل إلي إيمانها بأنها ما زالت تحيا وأنها تستحق الحياة.
الألوان الباردة كانت هي المسيطرة علي المشاهد،
حيث سيطر الأزرق والأخضر في دلالة علي برودة حياتها ومشاعرها، حتي أن لون الأشجار الأخضر
كان باهتا وتغيرت هذه الألوان تدريجيا وصولا
إلي الألوان الحية الدافئة.
لم يستخدم المخرج موسيقي تصويرية إلا نادرا،
واستخدم الأصوات الطبيعية وأصوات الطيور، لنعيش مع ماريا حياتها الباردة، ثم حنينها
لذكرياتها في جنوب اسبانيا.
الممثلين في الأدوار المساعدة ساهموا في اكتمال تميز الفيلم تمكنت (آنا كاستيلو) " الفائزة بجائزة Goyaلأفضل ممثلة جديدة عام 2016"، من تجسيد شخصية الفتاة
المقبلة علي الحياة فكانت نظراتها جريئة ونافذة ، حركاتها سريعة ببساطة وتلقائية أثرت في المشاهد، كما أثرت في ماريا رغم قلة مشاهدها.
وكان اختيار فلورين بيرسيك جونيور، في دور
شخصية مدير الحانة، موفقا، فرغم عبوسه، إلا أن ملامحه الحانية وقلبه الطيب جذبا ماريا
ليكون صديقا جديدا لها، وداعما في رحلة اكتشافها
لذاتها.
ويبقي أن نوجه تحية لدي لوس، لأنه لم يعبأ بشروط التوزيع والإيرادات، فقرر أن يقدم فيلمه عن فئة عمرية ربما لا تجذب الشباب، وهو الجمهور الأكبر للسينما، لكنه أراد أن يؤكد أن كبار السن أيضا من حقهم الحياة
ومن حقهم تقديم أعمال تناقش قضاياهم التي يغفل عنها الكثيرون، وربما يغفلون هم أنفسهم
عنها.