طارق الشناوي يكتب: تاريخ ميلادي أم هجري؟
هل وجود موهبة كبيرة وعميقة ومتوهجة تحول دون انطلاق الآخرين؟ كان عبدالحليم حافظ محاطًا بعدد من كبار الإعلاميين والمثقفين، كما أنه تمتع بحماية سياسية من السلطة، ورغم ذلك فإن مكانته الاستثنائية لم تتحقق إلا بتلك (الكاريزما) الربانية، لولا ذلك الوميض الخاص كان سيصبح مجرد صوت جميل على الخريطة، وما أكثر تلك الأصوات.
عندما أُعلن خبر رحيل عبدالحليم أثناء تلقيه العلاج فى لندن يوم 30 مارس 1977، كان الوسط الفنى يتعامل مع الخبر باعتباره مجرد شائعة سيتم تكذيبها بعد دقائق، لم يكن حليم قد بلغ بعد 48 عامًا، وفى عز صراع عبدالحليم مع المرض كان هناك من يعتبر الأمر مجرد دعاية، يستثمرها لصالحه، وبين الحين والآخر، وعلى خشبة المسرح أثناء غنائه، لم يتوانَ أن يأخذ أقراص العلاج، بعض المنافسين أيضًا كتب أنها مجرد أقراص نعناع، حتى يصدق الناس أنه فعلًا مريض.
بعد أن تم تأكيد الخبر لم يجد الوسط الغنائى من المطربين والملحنين والعازفين والشعراء والإعلاميين سوى مكان واحد يعزى كل منهم الآخر، توجهوا دون اتفاق مسبق إلى مكتب بليغ حمدى فى شارع (بهجت على) بالزمالك، ومع الأسف لم يفكر أحد بعد رحيل بليغ 1993 فى إنشاء متحف يضم هذا المكتب الصغير حجمًا، والذى شهد مئات من الأغنيات والبروفات، وكان له دوران تلمح البيانو يتصدر الدور الأول، وعددًا من الأعواد المتناثرة بعضها كان مصنوعًا على مقاس بليغ حتى يتفادى (الكرش) الذى بات يشكل له مأزقًا فى الإمساك به والعزف بمهارة عليه.
وجوه يكسوها الحزن، وعيون لاتزال غير مصدقة، وفجأة قال أحد المطربين بنبرة تبدو للوهلة الأولى متزنة وعاقلة: (الآن علينا أن نفكر بصوت مسموع، كيف تواصل مصر قيادة الفن الغنائى العربى؟)، كانت أم كلثوم قد سبقت حليم للعالم الآخر، بنحو عامين، وقبل بضعة أشهر من رحيلها كان فريد الأطرش قد لاقى وجه رب كريم.
وواصل المطرب حديثه: (الآن من الذى يمسك الراية بعد حليم؟).
لم يرد عليه أحد، لأن جثمان عبدالحليم لم يصل بعد إلى أرض الوطن ليوارى التراب، حتى يفكر أحد فى الراية، ومن يحملها إذا صح أن هناك راية أصلًا.
كرر المطرب السؤال، وهنا سأله الإعلامى الكبير كامل البيطار ساخرًا: (من الذى ترشحه ليرفع الراية؟)، أجابه: (أنا الوحيد المؤهل لتلك المهمة)، رد عليه الإعلامى الكبير: (بأمارة إيه؟)، فقال له: (أنا التاريخ)، أجابه ساخرًا: (تاريخ ميلادى أم هجرى؟).
كاد الموقف يتأزم أكثر حتى تدخل الأصدقاء، وبدأ البعض فى تحويل الدفة بعيدًا عمن يحمل الراية إلى سؤال عن موعد الجنازة.
ما باح به المطرب هو ما نراه فى الكثير من المواقع، البعض يعتقد أنه لو غاب فلان فسوف يبدأ هو فى التواجد والحصول على فرصته الحقيقية، لم تحجب أم كلثوم ظهور مطربات بحجم ليلى مراد وأسمهان وصباح ونجاة ووردة وشادية، وكان رفيق الدرب الموسيقار محمد الموجى لا يكف عن تقديم مطربين جدد لمنافسة عبدالحليم.
الأصوات التى عاشت زمن عبدالحليم انتعشت أكثر فى حياته، ولكنها لم تدخل التاريخ، ميلادى أو هجرى، أما المطرب إياه فعندما كانوا يسألونه بعد ذلك من يرفع الراية بعد حليم يجيب: (عبدالحليم أخذ معه الراية للعالم الآخر)!!.
المقال: نقلًا عن (المصري اليوم).