طارق الشناوي يكتب: عندما تصبح (الشخبطة) إبداعًا!
هل استمعت إلى صوت الريشة وهى تحتك بالوتر؟ إذن هناك قدر من الصنعة سوف يخلق مسافة وجدانية بينك وبين القطعة الموسيقية، عندما يختفى صوت أزميل النحات وهو يبحث عن روح الحجر، وتصمت ضربات الفرشاة على اللوحة، ساعتها توقن أن الكلام له مذاق الشعر، والمشى له إيقاع الرقص، والتصوير العشوائى صار فيلمًا سينمائيًا، هكذا شاهدت فيلم المخرجة هالة جلال (من القاهرة)، الذى عُرض ضمن المسابقة العربية (آفاق)، لتصبح (الشخبطة) إبداعًا.
نعم كل شىء محسوب بدقة، ولا توجد لقطات عشوائية، إلا أن هذا الإحساس تحديدًا كان عمقه هو تصدير التلقائية المفرطة، الفيلم امتد إعداده بضع سنوات، حرصت فيه المخرجة على أن تتحدث عن أشياء عديدة، رغم أنها ظاهريًا تبدو للوهلة الأولى أنها لا تريد الحديث عن شىء محدد، وأنها فقط وضعت الكاميرا وكل التفاصيل التى نشاهدها، تحركه فقط ضرورة ومقتضيات اللحظة.
ظلم الرجل للمرأة فى عمقه ليس رجلًا يعتدى على امرأة، أو يلقى ماء النار على وجهها، ومن ترتدى الحجاب ألا يحق لها دون أى إدانات مسبقة أن تخلعه؟ بينما على الجدران نقرأ تحذيرًا عالى الصوت بأن الحجاب يساوى الإسلام، بل كتب أحدهم حجاب المرأة سوف يقضى على الغلاء، طبعًا لسان حال الجميع يقول إذن ترتدى النقاب ليعم الرخاء بقاع الوطن، المأساة ليست فيمن كتب اللوحة أو من أمسك بماء النار، ولكن فى تسامح المجتمع مع هذا الاعتداء السافر، ماتت الدهشة فى العيون والقلوب قبل اللسان، الشارع أسبغ على الظلم رداء العدالة والتدين.
أمسكت هالة بمنهج يقترب من سينما الواقع وكأنها اللاسينما، كل شىء ممكن وكل شىء غير ممكن، ومن هنا تأتى عين المخرج فى التصوير وقدرته على الانتقاء بين كل هذه المادة، الشريط لا يدين إنسانًا بعينه، الانحراف ليس فردًا ولكنها منظومة راسخة من القيم الزائفة التى مع الأسف وجدت التربة صالحة لكى تنمو وتزدهر وتترعرع، فى مجتمع فقد قدرته على مواجهة القبح.
منذ اللقطة الأولى، ولدينا شريط موسيقى يغلب عليه أغنيات عبدالوهاب الشهيرة (أنا والعذاب وهواك) و(آه منك يا جارحنى) و(حكيم روحانى حضرتك بالطبع لأ) وغيرها، وأحيانًا موسيقى فقط، إلا أن المخرجة لا تخلص تمامًا لعبدالوهاب، تخونه مع آخرين، أخذت مثلًا (آه لو قابلتك من زمان) لوردة وبليغ، كان من الممكن أن تستبدلها بحالة موسيقية (وهابية) لتمنح الشريط مذاقًا واحدًا، من الواضح أن المخرجة أرادت أن تكسر أى تعمد ظاهرى حتى فى اختيار الأغانى والموسيقى.
التلقائية التى نتابع بها أبطالنا على الشاشة وهم يمارسون الحياة، ويواجهون دون تعمد ولا حتى استنفار المجتمع المتحفز والمتحفظ هى (شفرة) ومفتاح قراءة الفيلم.
تنتقل الكاميرا وهى تضع أبطال الفيلم فى الشارع، هذا الحضور المؤثر يمنح الفيلم مزيدًا من الانسياب فى الحياة.
ذابت تمامًا الفروق بين الفيلم الروائى الخيالى والتسجيلى الوثائقى، المهرجانات لا تفرق بينهما فى التسابق على الجوائز، الهدف العميق هو القدرة على التعبير، وفى النهاية ترنو حتى السينما الروائية إلى كسر أى تعمد فى فن الأداء ليبدو الممثل المحترف له تلقائية أبطال الفيلم التسجيلى الذين يقدمون حكاياتهم، لو كان الأمر بيدى لرشحت هذا الفيلم لتمثيل مصر أيضًا فى المسابقة الدولية، ولكن هذه حكاية أخرى.
المقال: نقلًا عن (المصري اليوم).