طارق الشناوي يكتب: "ليلة قمر 14" نزع النقاب.. يرتدي بنطلونًا ويخشى الفستان!
كل التجارب منذ عقود من الزمان وحتى كتابة هذه السطور- أكدت أن الجمهور المصرى لا يتفاعل مع قالب تتعدد فيه الحكايات والقصص داخل الفيلم الواحد، فهو يريد حكاية زمنها فى حدود ساعة ونصف الساعة يتعايش فيها مع نفس الأبطال، مؤخرًا شاهدنا أكثر من فيلم وبرغم أن أبطاله من نجوم الشباك، إلا أن الهزيمة الرقمية كانت فى انتظارهم، نعم بناء الشريط السينمائى يتحمل قسطًا وافرًا من الهزيمة، ولكن يبقى أن مزاج الجمهور النفسى فى تقبل مثل هذه الأنماط يلعب دوره المؤثر فى تكرار الفشل.
لدينا تنويعة أخرى وهى الأفلام المتصلة المنفصلة، قدمت نوعيات عديدة منها فى الستينيات، تجمع بين ثلاثة أفلام روائية قصيرة مثل (البنات والصيف) وبرغم أن الأبطال جميعًا من نجوم الشباك وتصدى للإخراج أكبر ثلاثة من أساطين الإخراج فى ذلك الحين الذين ارتبطت أفلامهم بأرقام الشباك، صلاح أبوسيف وعزالدين ذوالفقار وفطين عبدالوهاب إلا أن النجاح ظل محدودًا، ولو قارنت مثلًا أفلام عبدالحليم الأخيرة بما حققه (البنات والصيف) ستكتشف الهوة الجماهيرية الشاسعة.
التاريخ يؤكد أن هناك حاجزًا نفسيًا يقف بين البناء السينمائى والجمهور، ورغم ذلك فإن التجارب لم تتوقف وآخرها فيلم (ليلة قمر 14) الذى قرر كاتبه محمود زهران فى أول تجربة روائية له مع المخرج هادى الباجورى الاقتراب من المناطق الشائكة اجتماعيًا، وهى مساحة ملغومة، فى الماضى وحتى الآن، وزاد الأمر وعورة بعد أن باتت السمة المحافظة مسيطرة علينا، يميل المجتمع للجهر بالرفض.
وهو ما انتقل أيضًا إلى صُناع العمل الفنى فباتوا محافظين، جمع كاتب الفيلم بين أكثر من دائرة تكشف الحساسية المفرطة فى التعامل مع مشاعر الحب، وحرص على أن كل هذه الحكايات أحيطت بإطار شرعى وهو الرغبة فى الزواج، حتى لا يصدم المجتمع مرتين، الإطار الشرعى يمنح عادة تلك الحكايات قدرًا من الحماية الأدبية، يقف على تخوم الحكاية تقديمها فى إطار أقرب لمفهوم السينما النظيفة، أى أنه لن يسمح بأن يرى الجمهور ولا حتى شروعًا فى قبلة، يدخل كطرف فاعل الإعلام وتحديدًا برامج (التوك شو) التى تتصيد حياة الناس بغرض البحث عن (تريند)، وفى العادة تردد ما يلقى موافقة ومباركة من الأغلبية.
أغلب ما تناوله الفيلم حكايات لها ظل من الحقيقة، ولكن فى النهاية يترك دائمًا المخرج هادى الباجورى القوس مفتوحًا، فهو أيضًا حريص على أن يخوض المعركة ولديه قميص واقٍ من أى ردود فعل غاضبة وبقدر ما هى متحفظة سوف توجه إليه لا محالة، لو أفصح عن موقفه، فهو يذكرنى بالطالبة التى لعنوها لأنها ترتدى فستانًا فى الامتحان.
ودافعت فى البداية عن موقفها إلا أنها بعد ذلك تراجعت، صحيح أنها لم ترتد نقابًا، كما كان مطلوبًا منها، إلا أنها أيضًا تخلصت من الفستان واكتفت ببنطلون، أمسكت العصا من المنتصف وهو بالضبط ما فعله أيضًا المخرج، اقتحم أكثر من حكاية شائكة وهو ما يحسب له، ولكن يحسب عليه أنه لا يجرؤ على إعلان موقف قد يثير غضب قطاع من المجتمع، مثلًا الحكاية الأولى زواج أستاذة الجامعة غادة عادل من المعيد خالد أنور الذى يصغرها بعشرين عامًا. التتابع يشير إلى تراجع المرأة خوفًا من ردود فعل المجتمع، فهو استسلام لرأى متحفظ، وفى علاقة الحب بين المسلم والمسيحية أو العكس فهو لم يحسمها بشكل مطلق هل البنت مسيحية أم مسلمة؟، فقط هى غير محجبة وهو ما يشير بنسبة كبيرة، خاصة فى الصعيد، إلى أنها مسيحية، ولكنه لا يحسم الموقف، حتى لا يصطدم الشريط بحاجز الرقابة، حرص على عدم التعمق أكثر فى تلك المنطقة الملغومة.
وهناك أيضًا الحكايات التقليدية مثل الأب الذى يرفض زواج ابنته من معد برامج لأن أمه ممثلة، أو التوقف عند نظرة المجتمع وأيضًا حكم القانون فى الفارق بين المتعاطى وبائع المخدرات، ثم الحكاية الخامسة والأخيرة التى تناصر وتنتصر للحب مهما أوغلنا فى الزمن، وهى حكاية مذيع الراديو (خالد النبوى) الذى يتحدث عن الحب، فى برنامجه وينتقل من العام للخاص موجهًا رسالته إلى حبيبته القديمة شيرين رضا، مؤكدا أنه فى طريقه إليها حتى لو أدى الأمر إلى أن يُرفت من وظيفته.
حرص السيناريو على أن يبدأ بصوت خالد النبوى الحكايات كلها، وينتهى إليه، قدم لنا فيلم (ليلة قمر14) الذى يستحق توصيف «جرىء»، رغم أن تلك الكلمة تعرضت للكثير من الانتهاكات، إلا أن الفيلم كما رأيته يستحق وصفه بها، حتى لو وقف وهو يسبح فى الأمواج فقط عند حدود (البراميل) ولكن علينا ألا ننسى قسوة الرقابة التى حتى لو أبدت بعض المرونة كما أن المجتمع يظل أكثر جمودًا وتحفظًا.
الشريط به قدر من الحداثة والطزاجة فى اللغة السينمائية، وتلك هى لمسة هادى، فهو عصرى فى التقاط التعبير السينمائى، كما يؤكد الفيلم دراميًا أن (السوشيال ميديا) صارت جزءًا حميمًا ومؤثرًا فى المنظومة برمتها.
القصص تتلاقى وتتفاعل من خلال مقدم برنامج إذاعى، تبدو ظاهريًا وكأنها فى دوائر منفصلة رغم أنها فى النهاية تلتقى فى نقطة واحدة وبحالة مزاجية واحدة.
(ليلة قمر 14)، هى تلك الليلة التى يكتمل فيها القمر، فهو قبلها يبحث عن الاكتمال، وبعدها يبدأ رحلة التلاشى، القمر يؤثر على حياة الناس، مثلما ترسم الاعتبارات الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية ملامحنا. قرر الفيلم بنسبة لا يُستهان بها أن يكون جريئًا فى مجتمع يعتبر الجرأة قلة أدب، ولهذا ستجد دائمًا أنه لا يصل للذروة فى إعلان موقفه ويترك هامشًا من التحفظ مثل فتاة الجامعة التى ارتدت بنطلونًا بديلًا عن الفستان؛ لأن الحل سيصبح هو النقاب!.
المقال: نقلًا عن (المصري اليوم).