طارق الشناوي يكتب: عندما يعرض المهرجان فيلمًا لثلاثة فقط من الجمهور!
كثيرًا ما أعتذر عن تلبية دعوة العروض الخاصة، لإحساسي أن من في صالة العرض ليسوا هم الجمهور المستهدف، شرعية المشاهدة جزء حيوي في تلقي واستيعاب الفيلم، بينما جمهور العروض الخاصة هم مجموعة يتم انتقاؤها غالبًا من الأصدقاء، بطبيعة الأمر ودون حتى تعمد، هم منحازون لكل المشاركين فى العمل الفنى، وهناك أيضا نوع آخر من العروض، وهى المحدودة جدا المقصورة على المخرج وربما فريق العمل، مع عدد منتقٍ من المتخصصين، يسترشد بآرائهم، وتلك أيضا تفتقد نكهة المشاهدة.
ويقف كحلقة متوسطة عروض المهرجانات التى تجمع بين الجمهور الخاص وهم ضيوف المهرجان، وأغلبهم من الصحفيين والنقاد والإعلاميين، وجمهور أهل المدينة، والقسط الأكبر منهم، قطعا، من عشاق السينما المتيمين، شاهدت فى قسم المنتدى الفيلم الألمانى (الموت مع أمى) للمخرجة جيسكا شوماخر.
الفيلم حميم جدا عن علاقة بين امرأة وأمها، حيث تقف الأم على حافة الموت وتطلب الموت الرحيم، والابنة تطالب به رحمة بأمها، لكن القانون لا يسمح، إلا طبقا لشروط محددة علميا لا تتوافق مع حالة الأم. قبل أن أواصل معكم الفيلم أتوقف عند قضية شروط المشاهدة، فى هذه الدورة التى أراها استثنائية بكل المقاييس.
قبل أن يسمح لك بدخول الصالة عليك أن تقدم ما يفيد الحجز عبر (النت)، والتأكد من نتيجة المسحة بخطاب موثق يشير إلى سلبيتك، بعد ذلك أمامك طابور آخر لتضع سوارا يتجدد لونه يوميا وتاريخه يتيح لك التحرك بحرية، فى كل ردهات المهرجان 24 ساعة فقط، ورغم ذلك قد لا يكتفى بمقارنة اسمك على الكارنيه مع جواز السفر يجب أن تكون دائما جاهزا بالأوراق، كل شىء معد بالتفصيل الصف ورقم المقعد ولا شىء أبدا للصدفة، يطلبون الحضور قبلها بنصف ساعة، لكنى تواجدت قبل العرض بربع ساعة فقط، وتوقعت الزحام، دخلت الصالة ولم أجد غيرى، ورغم ذلك التزمت برقم الكرسى، وقبل دقيقة واحدة حضر فقط شخصان، بينما مقاعد السينما فى الحدود الدنيا تتجاوز رقم 500، من الذى اختار دار عرض بهذا الاتساع، حيث إن هناك دار عرض أصغر تصل فقط لـ100 كرسى، واضح أن تعليمات إدارة المهرجان صارمة تقضى بضرورة العرض ولو لمتفرج واحد، هذا ما أكدته لى الموظفة المسؤولة عن تنظيم العروض، لا يلغى الفيلم إلا فى حالة واحدة وهى أن يأتى الموعد ولا يحضر أحد. المشاهدة على هذا النحو تبدو مضللة جدا وغير صحية، السينما كوسيلة مصنوعة من أجل المشاهدة الجماعية التى تشكل على الأقل 50 فى المائة من متعة تلقى العمل الفنى، التفاعل ليس فقط بينك وبين الشاشة، لكن هناك العنصر الثالث، وهو الجمهور، وعندما يغيب المتفرج تغيب المتعة، هناك تواصل لا شعورى تفرضه الصالة المظلمة على الجمهور المتباين فى مشاعره وأفكاره، لكن لغة الشاشة هى التى يتوحد عندها الجميع.
(القتل الرحيم) قضية عالمية بعض الدول أقرت بها بشروط، فى عالمنا العربى محرم شرعا، الأسباب قطعا مفهومة وأيضا مقدرة.
فى مستشفى يستقبل الحالات الحرجة تعيش الابنة مع أمها ونرى عشرات يقفون على نفس الحافة، يظل هناك أمل، يلوح من بعيد، الأم والابنة يطلبان المورفين لتخفيف الألم، ويبدأ الطبيب بشريط لاصق على موضع الألم، وكما فهمت من سياق السيناريو أنها خطوة أولى، وعندما ينتصر الألم يبدأ السيناريو الثانى الحقن بدرجات تصاعدية فى قطرات المورفين، الموت قد يراه الطبيب قريبا بعد دقائق أو ساعات، سر الحياة والموت أكبر من تقدير كل العلماء.
حتى اللحظة الأخيرة لا يتوقفون عن محاولة إعادة الشغف بالحياة. على بعد خطوات من حجرة بطل الفيلم نرى صالة بها آلات إيقاعية تقدم ضربات صاخبة وكأنها تستدعى من خلالها روح الحياة توقظها من غفوتها، والكل يشارك فى الرقص، وبالطبع هم لا يستطيعون الحركة، واقعيا، تشعر بنظرات بعيونهم ترقص، حتى من هم على المقاعد المتحركة، يلوحون بأيديهم مع الإيقاع، الجسد يقاوم الموت بالرقص، نعم إنها حقيقة ـ ولهذا تتداخل الأصوات التى نراها فى الصالة مع بطلة الفيلم ويتحول فى النهاية العنوان من (الموت مع أمى) إلى أغنية تتردد بكل بهجة وسعادة (الرقص مع أمى).
اختارت الأم كل تفاصيل الجنازة، حتى الصندوق الأسود كان استجابة لطلبها، الموت هل يعنى النهاية؟ هذا هو السؤال، تعثر على الإجابة فى (تتر) النهاية والموسيقى تدعونا جميعا للحياة، فهى أقوى سلاح يواجه الموت. وانتهى الفيلم وبقى فى ذاكرتى تلك اللمحة التى لا تنسى، هل كانت تفرق لو وجدت الصالة ممتلئة بالجمهور؟ نجحت المخرجة أن تنسينى تماما أننى شبه وحيد فى دار عرض، ولو كانت الجماهير حاضرة فلن أشعر أيضا بوجودها أمام حميمية هذا الشريط، الذى ضرب فى مقتل كل قواعد المشاهدة التى اعتقدنا أن الفيلم يفقد شرعية وجوده بدونها!!.
المقال: نقلًا عن(المصري اليوم).