داليا عطية تكتب: فعَلَتها آمال ماهر.. فعلتها المتفردة بحناجر الطرب الثمين
جاءت - بعد غياب - كان قاسيًا على قلوب المحبّين، وشديد الجفاء على مسامع عُشاق الطرب الأصيل، لتقول في رقّة وهدوء وثبات، إن الزمن الجميل الذي حملت رائحته وعبَقه في ظهورها، وفي صوتها، وفي أدائها، باقٍ فينا شيء من أثره.
جاءت لتقول إن كوكب الشرق التي لا يضاهيها صوت في زمانها، غير مطربة القطرين فتحية أحمد التي تفوقت عليها أم كلثوم بسبب نضجها الفني السريع، قد جادت علينا السنين بمن هم في موهبتهما، وعندما يكرر الزمن مواهبه لا يشترط سنًا ولا صلة قرابة، أمال لاتنتمي نسَبًا لأم كلثوم، لكنها تنتمي في موهبتها وقدراتها المتفردة، لنفس الوطن الذي نشأت في كنفه.. المطربتان من مصر.
ومصر التي جاءت بكوكب الشرق، غير فقيرة لتجود علينا بكوكب جديد، يحمل عبَق القديم، وقوة التراث، وطرب الزمن الجميل، فينقل أجواء هذا الزمن في العصر الحديث، وينثر عبيره بين جيل الألفينية؛ ليحافظ ذلك الجيل على إرث الكبار، وتواصل مصر - أم الدنيا - ريادتها للفن الأصيل، بهؤلاء الصغار الذين وُلدوا كبار.
أمال التي جاءت بعد سنوات من جيل العمالقة فأحيَت فينا جَميل أثرهم عندما يشدون بأصوات الزمن الجميل، فيطربون مسامعنا، وتخترق حناجرهم الذهبية أعمق المسافات في قلوبنا، فتجيد صناعة السعادة بجملة، أو كلمة، إذ يمكن لعقارب الساعة أن تقيس زمن النطق بكلمة "آه" التي لا تتجاوز الثانية الواحدة، إلا أن أمال حين تنطق بها، وعندما تؤدّيها، تتبدّل الثانية بعُمر كامل، يتحول إلى شاشة ذكية، تسرد عبر المشاهد التي تتوالى في مخيلتك، شريطًا كاملًا للحياة !
وليس كل من أدّى الـ "آه" مؤثِرا، فهناك قدرات تُذكّرك بالوجع، وهناك قدرات تُعبّر عنه، وهناك موهبة تُعيدك إلى قلب التجربة، وتتنقّل بك بين تفاصيلها القاسية، وتتعافى - في نفس الوقت - بها حين تُشعرك مساحة الصوت بالبراح، وأمال هي البنت الوحيدة لهذه الموهبة في مصر.. أمال هي السوبرانو.
والسوبرانو لمن يقرأ - من غير أهل الفن - يمكن تعريفه كـ كلمة مشتقة من اللاتينية "superanus"، معناها "الأعلى" ويمكن تعريفه فنيًا بمثال بسيط، عندما نشير إلى حمّام السباحة، إذ قد يُجيد - عدد كبير وربما الجميع - السّباحة، لكن فئة قليلة هي التي تجيد الوصول إلى أعمق نقطة، دون أن تتأثر أنفاسها بضيق القدرة على التحمل.
وعلى سبيل المثال، يُعتبر عبور بحر المانش - بالنسبة للسبّاحين الماهرين في كل أنحاء العالم، أحد أكبر التحديات في مهنتهم، بسبب طول مسافة البحر، ويُعتبر الصوت السوبرانو بالنسبة للفنانيين، أحد أكبر الأمنيات في مهنتهم، وأمال الوحيدة في مصر - بعد كوكب الشرق ومطربة القطرين – التي حباها الله بالصوت السوبرانو، الذي يستطيع الوصول لأعلى الطبقات، دون أن يشعر المستمع أن المطرب يواجه صعوبة في تحمُّل ما لا طاقة له به، فلماذا نحقد على مواهب الله في الأرض، وعطايا الله للناس !
أمال عبَرَت المانش في حفلة جدّة بالمملكة السعودية، وأبحرت بأنفاسها إلى أعمق نقطة في بحر الماهرين، وأبعد مسافة في طموح الفنانين، دون أن تشعر كمستمع أن هناك روحًا تواجه خطر الغرق، أو أنفاسًا متأثرة بالغوص تحت الماء لمدة طويلة، وهذا لا يحدث إلا في حضرة المُتمكّنين.
والتمكُّن قد يكون تربية، وتدريبًا، وممارسة، وجهدًا كبيرًا غير منقطع - للطامح في الوصول - لكن ظهوره في أبهى صِوَره يقتضي أن يكون الفنان - في الأساس - صاحب موهبة، والموهبة معجزة، يحددها ويوجهها الله فقط، لمن يريد من عباده، فلماذا يحارب البعض معجزة الله في أمال ماهر ؟
المعجزة في أمال أنها في مرحلتها العمرية الصغيرة - مقارنة بأعمار فناني الصف الأول حاليًا، وهي واحدة منهم أيضًا - تجمع بين حناجر الزمن الجميل، وبين ما يطلبه المستمعون في العصر الحديث.. هذه الصغيرة سنًا التي وُلدت بچينات الكبار، حين تشدو بأغاني عمالقة الستينيات، وكواكب مصر ودُررها في الزمن الجميل، تسرق كل مُريدي هذا الزمن، في رغبةٍ منهم بعدم العودة.
في حفلة جدة، التي كانت أول أمس، رفع الجمهور شعارًا أخذ يكرره عند نهاية كل أغنية قائلًا:" الست لسه عايشة يا أمال" في إشارة منهم لكوكب الشرق أم كلثوم، التي أعادت أمال ماهر بموهبتها الفريدة، وصوتها الذي يصدَح بلا حدود، ويُغرّد بلا قُيود، جمال الطرب في هذا الزمن، وحلاوة التراث الذي نملكه، إن لم تكن أعادت إلينا الزمن نفسه، ما جعل ملعب الجوهرة الذي كانت أقيمت فيه الحفلة، والذي يضم أكثر من ٥ آلاف مقعد للجمهور، يُصفّق بعد كل أغنية، تصفيق الجول، الذي جاء مُنصِفًا لمباراة، يريد فيها الناس أن يفوز المنتخب، وليس فريقًا أو فرقة بعينها !
حالة من الفخر حين يُردد الحضور الذين جاءوا من مختلف الدول العربية، اسم مصر قائلين:" مصر ولّاده" فلماذا لا نتعامل مع نجاح أمال على أنه نجاح منتخب، وليس نجاح لفرقة ضد أخرى، أليس في عودة إحياء التراث الفني المصري، أداءًا وصوتًا، عودة أيضًا لريادة مصر الفنية ؟
لماذا تدفّقَت أصوات فور عودة أمال؛ لتوجّه الأنظار نحو أن دائرة النجاح لا تقبل إلا أم كلثوم نفسها وليس غيرها ! وكأن في ولادة كوكب شرق جديد، انتقاص من كوكب الشرق الأولى، نعم أقول الأولى، ولا أريد أن أضع نقطة بعد كل اسم ناجح؛ لينتهي السطر، وتُمتلئ الصفحة، وكأن لا مكان لسطورٍ أخرى، ومصر التي تتسع أحضانها لمواهب كثيرة، وتقول مع كل موهبة: هل من مزيد.
لماذا طرحت أصواتًا اسم الفنانة أنغام، في محاولة لمقارنة غير عادلة، بينها وبين أمال، بل إنها محاولة تنتقص من رصيد أنغام التي هي - في وجهة نظري - لا ترتقي أصلا للمقارنة بجيل العمالقة، الذي أول ما يتّسم به هو الصوت السوبرانو، وهو ما لا تجيد أنغام - في وجهة نظري- الوصول إليه؛ لتهوى المقارنة، وتسقط أرضًا، مع أول سطر في القصيدة، التي يُقال عنها في مثل هذه المواقف، في مثَل شهير، حين تريد أن تلفت نظر شخص إلى أن استمراره في الحديث إهدارًا للوقت، فتقول له:" بداية القصيدة كُفر."
أتفهّم جيدًا أن عودة أمال فرضت على البعض إعادة الحسابات حول مصيرهم الفني، خاصةً وقد بات الجمهور أمام أكثر من وجبة، وغير مُضطر لتناول ما هو متاح " والسلام"، ولأنه مُتذوق جيد للفن والموسيقى، فسوف يُرتّب المواهب حسب قيمتها التي تستحق، والتي يُجيد جيدًا التّفرقة بين كل موهبة على حدة.
وأتفهّم جيدًا أن ظهور أمال يُحقق القاعدة التي تقول إن التضاد يُبرز المعنى ويقوّيه، ولكني لا أفهم الأقلام التي تحاول أن تحجر على رؤية الجمهور، وتهرول مُسرعة لوأد مشروع فني عملاق، تستطيع مصر أن تعود به إلى نقطة الريادة من جديد.
كما أتفهّم أن موهبة أمال حين تُقرر العودة من جديد، ستكون شوكة قويّة في حَلق مواهب محدودة الإمكانيات، وهذا ليس تنبؤًا لي، فقد قال العملاق ومُعاصر الكبار عمّار الشّريعي عن موهبة أمال، ما يكفي لأن تكون هذه الموهبة مُرعبة في قُدارتها وإمكانياتها، لكلٍ من أبناء جيلها، بل والأجيال التي سبقتها، ولو كان هذا العظيم بيننا الآن، لكان خير متحدث عن أمال، كما أنني على يقين أنه كان سيُفصّل ألحانًا خصيصًا لها، تُبرز السوبرانو الذي تمتلكه حنجرتها الذهبية، وتتفرّد به عن كل مطربات الصف الأول الذين ظهروا منذ رحيل كوكب الشرق وحتى كتابة هذه السطور.
ولكنني لا أتفهّم فكرة المقارنات، وأُفضّل أن يكون لدينا مئات الموهوبين، وليس شرطًا أن تكون المواهب بنفس الكفاءة في القدرات والإمكانات، حتى لا نكون مُحبِطين لمواهب وضع الله لها حدود، وصانعي أحقاد على مواهب حرّرها الله من قيود الإمكانات.
أليس بإمكاني التعبير عن وجهة نظري في أنغام بأن المقارنة بينها وبين أمال -حبر ضائع- إذ لم تتمكن أنغام - في وجهة نظري - من نزول بحر المانش الذي تُجيد أمال الإبحار فيه بكل الاتجاهات، وعبوره بمنتهى الأمان، دون أن تتأثر أنفاسها، أو تختنق، أو يشعر المُستمع أثناء ذلك بضيقٍ أو ملل.
أليس بإمكاني القول أن أنغام - في وجهة نظري - لا تُجيد ما فعلَته أمال في حفلة جدّة حين وقفَت على المسرح لأكثر من ثلاث ساعات، تُقدّم أكثر من ٢٠ أغنية، بين الحديث والقديم الذي تمسّك به الجمهور، طالبًا تكراره، مثل ألف ليلة وليلة لكوكب الشرق، والعيون السود لوردة، وحاول تفتكرني للعندليب، وعيون القلب لنجاة، وعقب كل أغنية يقول الجمهور:" لسه يا أمال، تاني يا أمال"، وهو الجمهور الذي سرقَته أمال لزمن لا يُريد إلا البقاء فيه قدر المستطاع، وفي الوقت نفسه يستحيل لهذا الجمهور أن يترك ميكرفون هذا الزمن لغير أهله !
أتمنى أن نسمح لأنفسنا أن تفرح بعودة المواهب، ووجودها من الأساس، وكَونها مصرية الأصل، والهويّة، والموهبة، أكثر من قضاء الوقت في مقارنات تحرمنا من أن يكون لدينا نجاحات مختلفة لأسماء وقدرات مختلفة أيضًا، فلتُغرّد أمال، وأنغام، وشيرين، ومي فاروق، وكل صوت مصري كيفما يشاء، وأينما يشاء.
نحن لا نريد لزقزقة العصافير أن تتوقّف عند حدود الستينيات، بدعوى أن ما بعد ذلك اختراق للسابق! ولا نريد أن يكون عندنا كوكب شرق واحد، نحن في حضرة المواهب والنجاحات نرفع شعار:" هل من مزيد"، وفي حضرة المشروعات الفنية التي تعود بها ريادة مصر في هذا المجال نقول لرأس المال، وهو المُطرب: السّماءُ لك، اصدَح بما شِئت، ولك منّا كل الضّمانات، أتمنّى أن يكون هذا نَهجنا.. أتمنّى.