يوسف زيدان يكتب: مفهوم "الجنس الناعم"
وفقاً للحفريات، يمكن تقسيم حياة البشر على الأرض إلى مراحل تاريخية مديدة، متفاوتة الامتداد فى الزمن، أولها مرحلة الهمجية الأولى التى كان فيها البشر أشبه بالحيوانات وأقرب إلى ما نسميه الآن: القردة العليا.. وهناك اختلاف بين العلماء المعاصرين، فى المدة الزمنية التى استغرقتها هذه الفترة، فالبعض منهم يدلل بالحفريات على أنها استطالت لأكثر من مليونى سنة، والبعض الآخر يقول إن السمات البشرية للحفريات تشير إلى أن هذه الفترة امتدت قرابة مليون سنة أو أقل قليلاً. والمتأثرون بما ورد فى «التوراة» وليس فى العلم، يصرون على أن أبا البشر عاش على الأرض منذ سبعة آلاف سنة! وهو إصرار مضحك، واعتقاد أقرب إلى الهزل الذى لا يرقى للمناقشة.
وقبل خمسين ألف سنة، ومع اكتشاف البشر للنار
ومقدرتهم على إشعالها وقتما شاءوا، بقدح حجرين فى هشيم جاف، ومن ثم استطاعتهم إنضاج
الطعام، لاسيما اللحوم التى كانوا يأكلونها من قبل نيئة، دخلت البشرية مرحلة الهمجية
المتأخرة التى تطور فيها المخ البشرى، فاستطاع هذا النوع الحيوانى النطق بمفردات ذات
دلالة محددة تم التوافق عليها، فظهرت الأشكال الأولى للخاصية السحرية التى امتاز البشر
بها عن بقية الكائنات: اللغة.. وتلك هى المرحلة المسماة «العصر الحجرى»، لأن البشر
تعلموا فيها استعمال الأدوات المصنوعة من الأحجار، فصاروا يقطعون ما يريدون قطعه باستعمال
«الصوان» ذى الحواف الحادة كالسكين، ويستعملونه سلاحاً، وآنذاك اعتادوا العيش فى جماعات
تسكن الكهوف، وتحتمى بالسراديب المتسعة وبالآجام.
ومن الهمجية الأولى إلى الهمجية المتأخرة
وصولاً إلى مرحلة الجاهلية الأولى، دخلت البشرية مرحلة جديدة ظهر فيها مفهوم «الإنسان»
ونشأ شعور الأفراد من النوع الإنسانى بأنهم يختلفون عن بقية أنواع الحيوان. والجاهلية
هنا ليست بالمعنى الدينى المعاصر الذى يتوهمه كثير من الناس، وإنما بالمعنى الأصلى
«الفصيح» للكلمة: العنف.. فقد كان العنف المتهور آنذاك هو السمة الغالبة على سلوك البشر،
وهى سمة ظلت باقية فى بعضهم إلى اليوم! وقد أشرت إلى معنى «الجاهلية» فى كتابى: كلمات،
التقاط الألماس من كلام الناس، تأسيساً على قول «عمرو بن كلثوم» فى معلقته: «ألا لا
يجهلن أحد علينا/ فنجهل فوق جهل الجاهلينا». وقول النبى محمد للصحابى أبى ذر الغفارى
الذى هجا الصحابى بلال بن رباح قائلاً له: «يا ابن السوداء»! فعاتبه النبى بقوله:
«إنك امرؤ فيك جاهلية».
ومن زمن الجاهلية انتقلت الجماعات الإنسانية
تباعاً إلى مرحلة الحضارة المبكرة، والعيش فى مجتمعات كبيرة يحكمها «نظام» سياسى واجتماعى،
وهى الفترة ذات الطابع الأُمومى التى شهدت تأسيس مفهوم الحضارة وغرست بذورها الأولى..
وأعقبتها الفترة الممتدة إلى اليوم، أعنى الفترة الأبوبة «البطريركية» التى نعيش فى
ظلها منذ خمسة آلاف سنة، تقريباً.
***
ولم يكن ممكناً للبشر فى مرحلة الهمجية
الأولى، صياغة هذا التصور الذهنى عن «نعومة المرأة» لفقدان الأسس التى يقوم عليها هذا
المفهوم، فالإناث والذكور، يجمعهم نمط حياة واحد ويحتمون من الطقس بملابس متشابهة الشكل
ويمارسون الأنشطة ذاتها فى معظم الأحيان. وبطبيعة الحال، كان هناك تمييز بين الذكورة
والأنوثة، على أساس الاختلاف الفسيولوجى بينهما، وليس على قاعدة الصفات «الثقافية»
الفارقة بين الرجل والمرأة، وهو الأمر الذى نُسج على مهل طيلة المراحل التالية.. حسبما
سيأتى بيانه.
كما كان هناك اختلاف فى الأدوار بين الرجل
والمرأة، على اعتبار أن النساء هُنَّ اللواتى يقمن، وفقاً لطبيعتهن، بالحبل والولادة
والرضاعة، ويقمن، وفقاً للفطرة، برعاية الصغار حتى يشتد عودهم.. وقولنا هنا «الفطرة»
لا نقصد به المعنى الدينى المشهور الوارد فى الحديث النبوى: «كل مولود يولد على الفطرة».
«رواه الإمام البخارى»، وإنما نقصد به الميل الطبيعى الذى يشترك فيه البشر مع بقية
الحيوانات، خصوصاً معظم الثدييات، حيث تقوم الإناث برعاية صغارهن وفقاً للتكوين الفطرى
الفارق بين الإناث والذكور.. لكن ذلك لم يكن مسوغاً لتأسيس فكرة «النعومة»، بل بالعكس،
قد يجعل المرأة «الأم» أشد شراسة من الرجل، إذا تعرض صغارها للخطر، على النحو الذى
نراه اليوم فى عالم الحيوان.. وفى أحوال الناس!
وامتد هذا الحال فى مرحلة الهمجية المتأخرة،
مع اختلاف طفيف هو إدراك أن النساء أقل مقدرة على القتل والقنص والأفعال العنيفة، التى
كان الرجال يضطرون للقيام بها لضمان بقائهم أو للحصول على الضرورى من الطعام والمأوى،
وفى تلك المرحلة، صارت النساء «غنيمة» للذكر القوى، مثلما هو الحال حين يغلب الأسد
القوى الأضعف منه، فيستولى على إناثه وقد يقتل أطفاله «الأشبال» ليدفع إليه الإناث
«اللبؤات» لطلب الإنجاب، بدلاً من انشغالهن برعاية صغارهن من الأسد الأضعف الذى قُتل
أو جُرح جرحاً مميتاً أو انهزم فاستسلم للرحيل عن القطيع.
فلما عاش البشر فى جماعات كبيرة، وانتظمت
أمورهم وفقاً لأشكال بدائية محددة، ومارسوا أنشطة أرقى من القنص والصيد، كالرعى والزراعة،
اختلفت الخصائص النوعية الفارقة بين الرجال والنساء، باعتبار الاختلافات التى استجدت
ببطء عبر مئات السنين، وانتهت إلى تباين طفيف بين مجتمع النساء «والأطفال» ومجتمع الرجال
البالغين، تلافياً لفوضى الاختلاف وحفاظاً على شكل «الأسرة».. كما انتهت إلى اختلاف
واضح بين أزياء النساء وملابس الرجال، وما يرتبط بذلك من أمور «الزينة» التى نسميها
اليوم: المكياج.
وهكذا تشكل فى أذهان البشر مفهوم متطور
عن المرأة، فلم تعد «غنيمة» مثلما كان الحال فى الأزمنة الهمجية، إذ صارت موئلاً للرجل
يرتبط بالبيت «المنزل، الخيمة» وبالذرية، بأكثر مما ترتبط بالنشاط الأساسى للجماعة
«المرعى، الحقل».. وفى تلك الفترة ظهرت التصورات المبكرة للربوبية والألوهية العليا،
فكان للأنوثة النصيب الأوفر فيها، وتقبّل المجتمع الإنسانى فكرة تعدد الأزواج.. على
النحو، وللأسباب الواردة فى مقالة الأسبوع الماضى.
***
ولن نتحدث هنا عن مشروعية تأليه الأنثى،
فقد أفاضت فى ذلك كتابات أخرى كثيرة لكارين أرمسترونج ونوال السعداوى وفراس السواح،
وغيرهم كثيرون، كما انعكست فى النصف الأخير من روايتى: ظل الأفعى.. ولذلك، فسوف نقتصر
فيما يلى على بيان التحولات التى تمت من خلالها صياغة مفهوم: الجنس الناعم.
فى الفترات المتفاوتة التى تعد بمثابة
«مهاد» للحضارات، لم تكن فكرة «الامتلاك» متجذرة فى نفوس الناس، لكن الملكيات المبكرة
والرغبة فى توسيع رقعة الملكية، أدت لاحقاً إلى نشوء الجيوش النظامية، سواء للتوسع
أو للدفاع عما هو مملوك. ومن أجل ترسيخ فكرة «المجد العسكرى» تمت الإزاحة التدريجية
للمرأة من عرش قداستها الأولى، لإفساح المجال لتمجيد هذا «الذكر» المقاتل، القاتل.
ولم يكن من الممكن ترسيخ هذه الرؤى فى وجود التبجيل للأنثى باعتبارها صورة الربة، فكان
لابد من إعادة بناء التصورات الثيولوجية «اللاهوتية» السابقة، بحيث تتزحزح الأنوثة
عن عرش الألوهية لإفساح المجال للإله الذكر، فصار «مردوخ» وريثاً للإلهة «عشتار» وتم
إعلاء «حورس» ليصير فى مكان أمه «إيزيس» وخالاته: نفتيس وحتحور.. ومع اتساع الإمبراطوريات
المعتمدة على القوى العسكرية، فى أنحاء العالم القديم، توالى ظهور الآلهة الذكور: إيل،
بعل، زيوس، ذو الشرى.. وغيرهم.
وكان لابد من تواطؤ بين «العسكرى» و«الكاهن»
لتأكيد استعلاء الذكورة على الأنوثة، وتكريس فكرة أن المجد للرجل! وللنساء النعومة..
وفى هذا الإطار، ظهرت «اليهودية» التى لم تكتف بإزاحة المرأة من عرش القداسة الأولى،
بل جعلتها مدنسة بعين ما كانت مقدسة به: دم الحيض. وجعلتها فى «الخيمة» مستريحة وناعمة
وجاهزة دوماً لتلبية اشتهاء الرجل. وبهذا عادت فكرة «الغنيمة» لتلتصق بالمرأة وترتبط
بها، فى حركة تراجعية نجحت اليهودية والديانات المعاصرة لها فى إرسائها من خلال أحكام
شرعية لا حصر لها، منها النظر إلى الزوجة على أنها مثل العبد «الأمة» ومنها تحريم لبس
الحرير على الرجال باعتباره رداءً نسائياً «مع أن الجنود قديماً كانوا يرتدونه» ومنها
مفهوم الطاعة.. طاعة المحكوم للحاكم، طاعة الزوجة لزوجها، طاعة المرأة عموماً للرجل
باعتباره «القيّم» عليها وباعتبارها الأقل أو الأنقص عقلاً وديناً.
***
وفى زماننا المعاصر، اضطرب الحال فحدث ارتباك
فى المفهوم الوهمى المسمى «الجنس الناعم»، إذ صارت الحرب عملاً شبيهاً بألعاب الفيديو!
فالصواريخ تنطلق بكبسة زر، وأعمال الفتك تقترن بتفوق الأسلحة الموجهة عن بُعد، وليس
بالصدام بين حملة السيوف والرماح.. وفى غير الحرب، صارت النساء ترتدى من الملابس ما
يشبه ملابس الرجال! ولم يجد الذكور غضاضة فى القيام بأعمال الزينة والتجميل التى طالما
اقتصر عملها على المرأة لا الرجل.
وهكذا اضطرب مفهوم الجنس الناعم، فلم تعد النساء جنساً ناعماً أو لطيفاً، دون تأسيس فكرى بديل يعالج هذا الخبل الناشئ من تواطؤ طلاب السلطة السياسية بالعسكرة والكهانة، وهو مأزق لا يمكن تجاوزه إلا بطرح مفهوم «الإنسان» الجامع بشكل متناغم بين الأنوثة والذكورة، باعتبارهما وجهين لمفهوم الإنسانية.
عن الزميلة المصري اليوم