طارق الشناوي يكتب: "ميشيل المصرى.. يرحمه الله"
بمجرد أن وصلنى الخبر كتبت على صفحتى انتقل إلى رحمة الله الموسيقار الكبير ميشيل المصرى، لحظات وتلقيت على الخاص من زميلة صحفية شابة هذا التعقيب: اسمه ميشيل ورغم ذلك تقول إلى رحمة الله؟
تعجبت أن هناك من يعتقد بين شباب هذا الجيل أن رحمة الله للمسلمين فقط، رغم أنها فى النص القرآنى (وسعت كل شىء فى الأرض وفى السماء).
نعم يا زميلتى العزيزة لا أدعى أنى فقيه ولا داعية، ولكن لدى يقين أن الرحمة والمغفرة للجميع، وأن الجنة أيضا للجميع، ومن زرع الجمال فى حياتنا مثل الموسيقار الكبير ميشيل المصرى له الجنة بمقدار ما أسعدت نفوسنا موسيقاه ولاتزال قادرة على إنعاشنا.
قبل عامين عُرض فى رمضان الجزء السادس من مسلسل (ليالى الحلمية)، الذى حظى فى تاريخنا الدرامى بأكبر قدر من الاستهجان، وصار عنوانا للتردى، وصنف كمحاولة بائسة ويائسة للشعبطة على نجاح سابق، ورغم ذلك بقيت لمحة مضيئة واحدة ووحيدة لم يستطع أحد محوها، إنه تتر المسلسل الذى كتبة سيد حجاب ولحنه ميشيل المصرى وغناه محمد الحلو، (ومنين بيجى الرضا من الإيمان بالقضا)، احتلت المقدمة الغنائية، برغم مرور 30 عاما على انطلاقها، المركز الأول، كان ولايزال (التتر) يحمل وميضا خاصا يعرف الطريق السحرى لقلوب الناس.
هناك أيضا موسيقى (الحاج متولى) التى أمسكت بروح الشخصية، ليس هناك لمحة مباشرة ولكن تعبير يلمس الإحساس لأنه يمسك بنعومة وبلا مباشرة بروح الحاج متولى الذى نتعاطف معه كمشاهدين لأنه يحقق أمنية باتت مستحيلة وهى الجمع بين أربع جميلات، ولا تنسى أنه قدم أيضا أشهر أغانى محمد ثروت العاطفية (مين اللى ما يحبش فاطمة)، ولديك مثلا المسلسل الإسلامى (موسى ابن نصير)، لا أحد وقتها وجد أى تناقض بين ميشيل وابن نصير البطل الذى شارك فى فتح الأندلس.
ميشيل موسيقى موهوب كما أنه أيضا عازف كمان استثنائى وهكذا بذكاء التقته أم كلثوم فى نهاية الستينيات وسارعت بضمه لفرقتها، وشارك فى عزف ألحانها الأخيرة مثل (ودارت الأيام) و(أغدا ألقاك) كما أنه كان يعمل فى نفس الوقت بفرقة أحمد فؤاد حسن (الماسية)، وبعد رحيل أم كلثوم وقع اختيار الأخوين رحبانى عليه لينضم للفرقة فى بيروت.
وهكذا جمع بين قمتى الغناء (الست) و(جارة القمر).
ويبقى السؤال الشائك، الذى لم يحسم فى حياته وأظنه سيظل عصيا على الحسم.
أقعد المرض، فى السنوات الأخيرة، ميشيل المصرى عن العمل، إلا أنه، على الجانب الآخر، نشطت ذاكرته، وبرغم عزوفه عن الإعلام فجر مفاجأة، وتجدد الحديث مرة أخرى حول نسب أغنية «قارئة الفنجان» كاملة للموسيقار محمد الموجى، قال ميشيل إنه صاحب قسط من المقدمة اللحنية التى حققت نجاحا طاغيا، وإنه قدم لعبدالحليم عدة اقتراحات ربما ثلاثة، ثم وقع اختياره على تلك التى تم اعتمادها، وهو أيضا ما أشار إليه الناقد الموسيقى اللبنانى الكبير جمال فياض، مما يوحى لمن يقرأ دون أن يعلم كواليس صناعة الأغانى فى مصر أن للقصيدة ملحنين: واحد للشعر والثانى للمقدمة.
ميشيل لا أظنه سوى أنه يقول ما يعتقد أنه الحقيقة، لأنك بالفعل فى كل أحاديث محمد الموجى وعبدالحليم حافظ تكتشف أن تنفيذ اللحن ساهم فيه عبدالحليم بقسط وافر من خلال قيادته للفرقة الموسيقية، بل أكثر من ذلك أنه فى حضور الملحن كان عبدالحليم هو الذى يقود الفرقة، وهو الذى يحدد هل نعيد الكوبليه أم نكتفى بهذا القدر، عبدالحليم مع مرور الزمن أصبح هو المسيطر على كل التفاصيل، وهذا هو سبب ابتعاد كمال الطويل عن استكمال مشواره فى الأغانى العاطفية مع عبدالحليم بعد أن أصبح حليم، كما قال لى الطويل، يشعر بأنه الزعيم، لاحظ الطويل ذلك أثناء بروفات «بالأحضان» فابتعد، يقول الطويل: لم أكن أستطيع التوقف عن تلحين الأغانى الوطنية ولكنى بعد «بلاش العتاب» توقفت عن استكمال المسيرة العاطفية، ولا يعرف الكثيرون أن الطويل استعان بالملحن رؤوف ذهنى فى البداية لوضع اللزم الموسيقية للحن «بلاش العتاب» ولكنه بعد أن استمع إليها لم ترضه فنيا فأعاد تلحينها مرة أخرى.
مقدمة قارئة الفنجان بها ترديد لجمل موسيقية رئيسية عديدة مأخوذة عن لحن الموجى، ولا تستطيع أن تعتبرها إبداعا خاصا لميشيل حتى لو حملت تطويرا لجملة موسيقية أو أكثر، ثم إن هذه هى دائما قواعد اللعبة الموسيقية فى بلادنا خلال الأربعين عاما الأخيرة، الملحن يترك فى العادة اللحن بلا مقدمة ولا لزم موسيقية ويتولى الموزع نسج كل التفاصيل متكئا على التيمة الرئيسية فى اللحن.
الموجى الذى نحتفل هذه الأيام بذكرى رحيله 23، هو أغزر ملحن عرفته الموسيقى العربية طوال تاريخها، ولا ينافسه سوى بليغ حمدى، يبدو لى كأن الموجى يعرق موسيقى، فهل كان عاجزا عن مقدمة أو لزمة؟ أم أنه قانون جديد ارتضاه الموجى فى التعامل مع عبدالحليم عندما بدأ يستشعر أنه المسؤول أمام الناس.
حليم له رأى مباشر حيث يقول (أغنى اللحن بوجهة نظر ملحنه فقط فى التسجيل الأول بعد ذلك أقدم اللحن بوجهة نظرى أنا).
الموسيقار ميشيل المصرى لحق بالمحطة الأخيرة لزمن العمالقة، وغاب صناع الأغنية تباعا، وتشعبت الحقيقة، كم تمنيت أن نفتح هذا الملف الشائك وشهوده أحياء بيننا، فى كل الأحوال، ما تركه لنا ميشيل، حاملا اسمه، ادخل فى قلوبنا السعادة والرضا والنور، وصناع البهجة يجدون طريقهم ممهدا إلى الجنة!!
المقال نقلا عن المصري اليوم