طارق الشناوي يكتب: الفيلم البلجيكي "قريب" يترك لك مساحة من الفراغ تملؤها أنت!
كل منا عندما ينتهى المهرجان يفتش فى الذاكرة باحثًا عما تبقى بين نحو 50 فيلما شاهدها. من المؤكد يتبخر مع الزمن عدد لا بأس به منها.
دائمًا أقول إن أسوأ علاقة بالسينما هى تلك التى نعقدها فى المهرجانات. أنت لا تمنح أى فيلم مهما بلغ مستواه أى مساحة من أن تعايشه وتتأمله داخلك، عليك دائما أن تتعلم سرعة التخلص من الفيلم الذى انتهيت توًا منه حتى تستطيع ملاحقة الثانى، كلنا فى المهرجانات نلهث من فيلم إلى آخر، فلا وقت متسع أمامنا لتأمل شىء، إننا لا شعوريًا نسير على خطى (قاسم) الذى ذهب إلى مغارة (على بابا)، أراد أن يحصل على القسط الأكبر من الذهب والزمرد والياقوت ولم يستطع الخروج لأنه نسى كلمة السر (افتح يا سمسم).
لا يمكن تصور أن هناك إنسانًا تتحمل قدراته الاستيعابية أكثر من أربعة أفلام فى اليوم، وقد تزيد كحد أقصى إلى خمسة.. أكثر من ذلك من وجهة نظرى يحدث قدر لا ينكر من التشويش، مع اعترافى بحالات استثنائية لعدد محدود جدا من النقاد والسينمائيين الذين كثيرا ما التقيتهم فى المهرجانات وهم من يطلق عليهم (سينيفيل)، إنهم عشاق متيمون ومدمنون للسينما مثل: الأساتذة الراحلين المخرج محمد خان، والناقد والكاتب د. رفيق الصبان، والإعلامى الكبير يوسف شريف رزق الله. التقيتهم داخل وخارج مصر فى عشرات المهرجانات، وكثيرا ما كانوا يتجاوزون فى أرقام المشاهدة العدد الذى ينبغى أن يتوقفوا عنده.. ليس لديهم حد أقصى.
الحصيلة بالنسبة لى كما أسلفت لم تتجاوز الخمسين، تباين قطعا مستواها، لو طلب منى أن أكتفى بذكر واحد منها، أجد الفيلم البلجيكى (قريب) الحاصل على جائزة لجنة التحكيم الكبرى مناصفة- وهى تلى فى الأهمية السعفة- يستحق بسبب قدرته التعبيرية أن يحتل تلك المكانة الخاصة.
أقوى ما فى السيناريو الذى كتبه المخرج لوكاس دونت، الحاصل على (الكاميرا الذهبية) للعمل الأول قبل أربع سنوات عن فيلم (فتاة)، أنك ستكتشف أن المخرج فى فيلمه الجديد (قريب) لا يبتعد كثيرا عن هذا العالم فى تحليل الشخصية، ويترك مساحة ما للمتفرج، يضيفها هو هناك أكثر من مشهد غير مكتوب على الورق، بينما عين المتلقى هى التى ترسمه، مما يزيد الإحساس بالحميمية. الحالة الدرامية تقف على حافة (الميلودراما) ولكننا لا نصنف الفيلم باعتباره يقع فى هذا القالب، فقط على الحافة.
الفيلم يروى العلاقة بين صديقين فى مرحلة المراهقة، شاهدناهما فى بداية الفيلم يمرحان معا، يتشاركان حتى فى سرير النوم، علاقة تحدث كثيرا فى تلك المرحلة العمرية ولا تثير الشكوك أبدا، ولكن فى دائرة أخرى أوسع قليلا داخل المدرسة نلمح الشكوك بين الزملاء وبعض الهمسات، وهو ما يدفع أحدهما إلى أن يتوجه أكثر للألعاب الرياضية، ويتشاجران أكثر من مرة فى المدرسة، وفى مشهد لا نراه مباشرة ولكننا نتخيل حدوثه، يصل الصراع إلى أن يضرب الصديق صديقه بالعصا، كل هذا يجرى بلا أى شكوك جنائية، فلم تشعر أسرة الفتى بأن هناك جريمة ما، والجمهور لم ير شيئا.
من أعمق لمحات السيناريو تأتى أم أحد الطفلين لتخبر ابنها بأن صديقه تعرض لمشكلة صحية، يرد عليها: هل هو فى المستشفى؟ تأتى الإجابة رحل، أنت كمتلقٍ للفيلم لا تشك فى أن هناك شيئا ما غامضا فى الحكاية، الأمر بنسبة كبيرة يبدو طبيعيا وتلقائيا، والهدف أن يظل المتفرج فى حالة حياد، لا يستشعر أن هناك أبدا احتمال جريمة.
يحرص الابن على أن يأتى مجددًا لغرفة الصديق التى أبقت الأم على كل تفاصيلها كما هى، ويأتى لزيارتها، يتسرب إليها الشك، تسأله: هل حدث شىء بينكما؟ يجرى إلى الحديقة وتلهث خلفه، يُمسك بعصا ملقاة على الأرض ويبكى، نفهم منها ما الذى يقصده، تحتضنه الأم، تصل الرسالة بالتسامح، هل كان ينبغى أن تقدم الصبى للمحاكمة بتهمة القتل؟.. إنها أيقنت أن هذا لن يعيد إليها ابنها بل سيحرمها أيضا من صديقه.
العلاقة بينهما ملتبسة، قطعًا فى اللقطات لم يوحِ المخرج بأى علاقة مثلية، ولكن الزملاء فى المدرسة بكلمات تحمل نوعا من التعريض أوصلتهما إلى تلك المعانى التى تتجاوز الحقيقة التى شاهدناها على الشريط السينمائى. وتبقى قيمة التسامح هى الغالبة على الفيلم، ولا يمكن تصور أن أمًّا تمنح هذا الإحساس ببساطة، ولكن الدراما من خلال نظرات الأم ذهبت لما هو أبعد مما يحدث على أرض الواقع.
لماذا يبقى فى الذاكرة هذا الفيلم مستحقا أيضا الجائزة الكبرى؟ إنه التكثيف الذى وصل به المخرج فى اللقطة الأخيرة إلى الذروة، وأجاب عن سؤالين: كيف رحل الابن؟، والثانى ما موقف أم القتيل من القاتل؟.
المعنى الدرامى، بأقل عدد لقطات ومن خلال التكثيف، يصل بكل أبعاده للمتفرج.. هذا هو سحر السينما عندما تصل بالفيلم إلى قمة التماهى مع الناس، وهى أن تترك مساحة لكى تكمل أنت اللقطات العابرة. المتفرج السلبى الذى ينتظر كل شىء (على بلاطة) تجاوزته السينما.
انتهت رحلتنا مع مهرجان (كان) فى تلك الدورة التى أراها الأهم خلال السنوات الأخيرة، كما أنها شهدت لأول مرة مهرجانًا أعادنا لزمن ما قبل (كورونا)، عنوانه الزحام أمام دور العرض، وعلى بعد خطوات من السجادة الحمراء بلا أى بقايا من ملامح احترازية!!.
المقال: نقلًا عن (المصري اليوم).